هنري غيز.. مشاهدات مفصلة عن بيروت ولبنان

27 يوليو 2019
أثناء الهجوم على صيدا، 1840
+ الخط -

في كتابه المعنون بـ "بيروت ولبنان، منذ قرن ونصف قرن" يقدم الدبلوماسي الفرنسي هنري غيز، رؤية مفصلة عن الحياة في لبنان وفي وبيروت في بداية القرن التاسع عشر وحتى ما بعد منتصفه.

ويحتوي الكتاب كما نشر بالفرنسية في تلك الفترة Relation d’un sejour de plusieurs années à Beyrouth et dans le Liban، وترجمه إلى العربية مارون عبود بعنوان مختصر "بيروت ولبنان، منذ قرن ونصف قرن" سنة 1948، على مادة مهمة تاريخية وجغرافية وإثنوغرافية للمنطقة بشكل عام، تساعد في فهم تكوينها.

في سيرة هنري غيز، فإنه علاوة على وظيفته الدبلوماسية كان يهوى تسجيل كل ما يراه بأدق التفاصيل، حتى المملّ منها، وربما في هذا يكون مهووساً بالاستعراض أمام نظرائه من النخبة الفرنسية، يريد أن يطلعهم على مهاراته العالية التي اكتسبها من خلال إقامته الطويلة في لبنان وسورية، وأحقيته بالمنصب الذي يشغله، وأهليته له، فقد عُيِّن قنصلاً لفرنسا في لبنان في الفترة 1808-1828م، كما تولى قنصلية حلب في سورية في الفترة 1838-1847.

وإضافة إلى هذا الكتاب، الذي يعتبر مرجعاً مهماً بالنسبة للمستشرقين والرحّالة الفرنسيين والأوروبيين بشكل عام، صدر له كتاب "موسوعة تاريخ لبنان»، وأيضاً كتاب «الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا».

يكتب مارون عبود في مفتتح ترجمة الكتاب "هذا كتاب ضخم، يصوِّر لنا بيروت ولبنان يوم كان مؤلفه قنصلاً فرنسيّاً في الربوع اللبنانية؛ فالمسيو هنري غيز قنصل ابن قنصل، وُلد في ديارنا، ونشأ على هذا الساحل اللازوردي، وتعلَّم الفرنسية كما نتعلمها نحن؛ لأنه ربيب أسرة عتيقة المقام بهذه الأرض".

ويضع الكتاب في ميزان العمل العلمي والمصداقية الأدبية ويصفه بأنه يجمع في متنه كل شيء، بين الجيد والعادي، والمختمر والفطير، وربما الكثير من المبالغات، يقول: "في كتاب هذا القنصل آراء، منها المختمر ومنها الفطير، وفيه أوهام وحقائق، وفيه جدٌّ وثرثرة. ترجمتُه ترجمةً لا تخرج عن الأصل، ولم أُسقط منه إلا ما لا يُحتمل ذِكره ولا يُطاق، وهذا قليل. لم أرد على المؤلف عند كل رأي لا نُقِرُّه نحن؛ لئلا يضيع القارئ في أودية الحواشي. فمن يقرأه يعلم ما أعرف ويرى ما أرى؛ فأنا لم أُعرِّبه ليقرأه الأجانب.

كلنا نعلم أن السائحين - كالشعراء - في كل وادٍ يهيمون، فكيف بهم وقد جاءوا لبنان الذي هامت فيه وبه أمم المسكونة؟! فكلهم امتدحوا وذموا، وهذا شأن كُتَّاب الرحلات، وأكثرهم يعمل من الحبَّة قبَّة".

ويشيد مارون عبود بأحمد فارس الشدياق، الذي ثأر للعرب وكشف معايب المجتمعات الأوروبية، يقول: "أما نحن، الشرقيين، فقدْ كفانا كاتبنا العظيم - شيخنا أحمد فارس الشدياق - شرَّ هؤلاء جميعاً، كما استقلَّ بأعباء عرفان الفضل في كتابه "كشف المخبا عن فنون أوروبا"، فأعطى الحق صاحبه.
واحدة بواحدة، والبادئ أظلم.

وبعدُ، فأُشهد الله وملائكته أنني ذُقت الأمرَّين قبل أن جعلت بعض كلام المؤلف آخذاً برقاب بعض؛ فصاحبنا يقطع من كل وادٍ عصاً، ويفرُّ من موضوع إلى موضوع فرّاً عجيباً غريباً؛ فهنري غيز هو مكرٌّ مفرٌّ، لا جواد امرئ القيس السعيد الذكر".


وصايا للرحالة الأوروبيين

يقدم غيز، وصاياه للرحالة الأوروبيين، منصباً نفسه عميداً وزعيماً وعارفاً بأحوال الشرق العربي. وهو يبسط أمامهم ما عليهم أن يعتمدوا عليه في رحلاتهم من زاد وعدّة وأكل وملبس وسلاح واحتياطات، تشكل خريطة طريق لمن يريد أن يقوم برحلة ناجحة إلى بلاد العرب، دون أن يقع في مشكلات مع الأهالي أو من يقوم مقام السلطات، ولا يسقط في المطبات أو الحالات الصحّية العارضة التي تفسد السفر، أو يضعه في أتون نزاعات بين عشائر أو قبائل قد يؤدي ثمنها غالياً من حياته.

يكتب هنري غيز: "وعلى كل حال، فقد كان غرضي الأساسي تنوير أذهان مَن يدفعهم حب الرحلة إلى سوريا؛ فإلى رحَّالة المستقبل أُسدي هنا بعض النصائح.

إن المسافر الذي يرغب أن يزور سوريا بلهفة وشوق - وإذا تحرينا الصدق قلنا: بأقل ما يستطيع من كراهية - يجب عليه أن يتزوَّد بكل ما هو ضروري، وأن لا يعتمد في شيء على ما يمكن أن تقدمه له هذه البلاد من أسباب الراحة.
ليس في تلك الربوع سوى مطايا تحمل عليها الأشخاص من مكان إلى مكان، وغالباً ما تكون هذه المطايا هزيلة غير نشيطة. ولما كانت البراذع التركية غير صالحة البتة، فعلى المسافر أن يأخذ سرجاً إفرنجيّاً، ويتزوَّد بثفر وحزام وقرابيس شكت فيها الغدارات القوية.

إن الأسلحة لا تُستعمل إلا نادراً، غير أنها هي التي تضمن لك السلام والأمان.
إن حقائب الثياب والقبعات والمظلات والأخراج وجميع حوائج المسافر يجب أن تكون مغلفة بمشمَّع، أو مطلاة بمادة دسمة تمنع الخدوش التي يُحدثها العوسج والصخور ذات الشناخيب حين تعلق بها الحمولة لدى اجتياز المعابر الضيقة، كما أنها تَحُول دون البلل في الوقت نفسه".

ويمضي في وصاياه لهواة الرحلات ومحبي اكتشاف هذا الجزء "الوحشي" من العالم: "ولا بد للرحَّالة من سرير نقَّال كي لا يُضطر إلى النوم على التراب، وليتلافى الغبار والرطوبة والقمل والحشرات الأخرى التي يوجد بينها ما يؤذي، لا بل ما هو خطر ومخيف، والأخيرة من هذه الحشرات موجودة في الخرائب والقلاع القديمة، إن ناموسيَّةً مُحكمةً على السرير ليست بالشيء الكافي بالنظر لكثرة البرغش الذي يُرى في بعض الأمكنة.

إن الرداء ذا القلنسوة، والطماقات المصنوعة من نسيج لا تخرقه المياه والوحول؛ هي ضرورية. وكذلك بعض معدّات المطبخ، وأدوات سفرة كاملة، وإبريق صالح لطبخ القهوة على الكحول (السبيرتو) وشمعدان، وعدد لا يحصى من الحاجات التي تُصطحب حسب ذوق الأشخاص".

ثم هناك وصية أهم، تقي السائح أو الرحّالة من مغبة السقوط في النوم في الأماكن المتسخة والمعدية، يقول: "أما أنا، فلم أجد وسيلة للسفر خيراً من أن يصطحب السائح كل ما هو ضروري من الخيمة فنازلاً؛ وعند ذاك لا يُضطر إلى التعريج على القرى، بل يحل بأحسن مكان، وذلك يكون عادةً في حديقةٍ قُرب نبع أو جدول؛ فهناك لا نتعرض لأمراض المساكن القذرة، ونستريح بعض الشيء من تطلعات الفضوليين المتعِبة، كما أننا لا ندفع لأحد شيئاً من المال، ولا نتقيد بأي موجبات، وهكذا يمكننا أن نعيش على هوانا؛ لأن الخادم لا يقوم إلا بما يؤمر به".


عرق وقليل من النبيذ

يصف غيز مطاعم لبنان في تلك الفترة وانعدام المرافق السياحية التي تسمح بتلبية طلبات الزبائن، يقول: "ليس في لبنان مطاعم ولا منازل معدّة للسيّاح ولا فنادق، أما الحوانيت التي يُسمِّيها أصحابها مقاهيَ، وهي تحتوي كل شيء - كما يزعم من يديرها - فلا يمكن أن يجد فيها المسافر إلا الزيتون والخبز، والجبن الأبيض أحياناً. أما المشروبات فيقدم منها العرق، وقلما نجد النبيذ.

وليس لطريقة السياحة في هذه البلدان سعة الطريقة الأوروبية وأساليبها السهلة، مع أنها ضرورية. غير أن الرحلات هنا يقام بها بأكثر لذة، وعلى الأخص خلال ثمانية أشهر في السنة أو تسعة. إنها تُذكِّرنا بالأزمنة البدائية يوم كانت تكثر سعادة البشر وتزداد بقدر ما هم قريبون من الطبيعة؛ فالسعادة أمست تُطلب اليوم من رفيق أنيس، فالرفيق هو أُولى العُدَد التي يحتاج إليها السائح في الشرق ولا يمكنه الاستغناء عنها.

إنني أذكر هذه الأبيات من الشعر لِدي ليل:
… إن الأشجار تتحدث قليلاً، هذا ما قاله لافونتين
فأودّ لو أجد واحداً إلى جانبي لأنقل له ما يوحيه إليَّ الغاب".


العرب والعمران

يكرّس هنري غيز الصورة النمطية عن العربي، وإيمانه بالخرافات، ودهشته المبالغة فيها من كل إنجاز بشري، الذي يردّه إلى قوى خارقة. ومن ثم سنلمس في "الوصايا" التي يقدمها للأوربيين نوعاً من التجني على ثقافة وحضارة، وتنطعاً من قبله، على أن منتج الحضارة الأوروبية هو الأصفى والأعلى شأناً.

يكتب: "إني أنصح دائمًا المسافر الذي لا يملك خيمة (شادر)، أو ليس في عبِّه كتاب توصية، أن يتوجَّه إلى كاهن المحلة؛ لأن منزله أكثر نظافة من غيره، بل أقل قذارة إذا أردنا الصدق. أما المنفعة من هذا الانتقاء، فهي تَوخِّي دفع المصارفات دائماً؛ لأن الكاهن لا يمكنه أن يرفض ما يقدَّم له (كحسنة قداس). أما إذا كان غير هذا فالمضايقة واقعة لا محالة.

نصبتُ خيمتي على سطح منزل الكاهن، وهو قائم في الضواحي التي لا يتمتع فيها بأمان كبير. يجب أن يحذر المسافر آراء أبناء هذا البلد وبعض الفرنجة؛ فهم يحشون - إذا ما استُشيروا - مخيلة السائحين بالمبالغات التي يروونها عن الآثار التي أدهشتهم، وذلك يعود إلى غباوتهم لأنهم لا يُشبِّهون القلاع التي يخلب ألبابَهم منظرُها الرائع إلا بما نراه اليوم من بَنِيَّات، وهي أكثر سماجة من التي نسميها نحن بربرية. إن العرب تدهشهم - بوجه عام - رؤية الأنقاض، وكل قلعة مبنية بحجارة ضخمة تعدّ بمجرد هذه الضخامة أعجوبة في نظرهم. إنهم يؤكدون أن الناس يعجزون عن إشادة مثلها، ويعزون ذلك العمل إلى الجنّ".


مقابر بين الأحياء السكنية

يعلق هنري غير على ظاهرة انتشار المقابر بين الأحياء السكنية في بيروت، وغيرها من المدن العربية التي كانت تحت وصاية السلطات العثمانية، بأن ذلك يعود إلى منظر ديني، يرى في ضرورة الإسراع بدفن الميت حتى يؤدي الحساب لملاك الموت الذي ينتظره في القبر. وأيضاً إلى رغبة دفينة في أن يرى الشباب أمجاد أسلافهم المدفونين ويقتدون بهم وببطولاتهم.

يكتب: "المدافن هي أول ما يقع عليه النظر عند الخروج من باب السرايا. ففي جميع المدن التركية لا يفصل بين مقر الأحياء ومقر الأموات سوى حائط السور الكثيف وعرض الطرقات.

إن سبب هذا القرب الذي لا يجهل العرب مساوئه لأنهم ملمُّون بعلم الفيزياء والصحة؛ عائد - بلا ريب - إلى الاعتقاد الذي يوجب الإسراع بدفن المؤمن؛ لأن ملاك الموت ينتظره في اللحد لاستماع استجوابه الأول.

وهنا يجب أن نذكِّر بالمثل السائر الذي وضعه موليير شعراً:
من يدفن الميت باكراً فكأنه قتله؛ فرُبَّ مَنْ ظُنَّ ميتاً لا يكون موته إلا ظاهراً.
عرفت في أماكن شتى من سوريا أشخاصاً يطلَق عليهم اسم ابن الميت أو الميتة؛ لأن أباهم أو أمهم قد انتُشلا حيَّيْن من المقبرة.

تُزار القبور عندهم كثيراً، والنساء أكثر زيارة لها من الرجال، كما أن في جعْلها حول المدن، وعلى مرأى من الجمهور، تسهيلاً لمهمة الزائرين، ومحافظةً على الحشمة التي قد تُهتك في الأماكن المنزوية.

لم يكن منظر المدافن يُضعف شجاعة الأحياء عند الرومان، كانوا يهدفون من تشييدها على الطريق العام إلى خلق المنافسة والطموح؛ إذ تدعو رؤيتها الشباب إلى التشبُّه بالرجال العظام الذين خلدت ذكراهم هذه المقابر، فيقتفون آثارهم.

ويقوم بين مدافن بيروت قبر لإحدى الحاكمات في عهد السلطان محمود، ماتت منذ حوالي ثلاثين سنة، على أثر سقوطها من تخت روام (هودج مقفل ينقله بغلان) لدى رجوعها من الحج إلى مكة.

وإلى أول جمعية صحية تألفت في بيروت، يعود الفضل في منع دفن المسيحيين في دهاليز كنائس المدينة.

في الساحة الواقعة عن يمين باب السرايا كان يقوم - في ما مضى - بستان فخر الدين. وأظن أن كاتباً قديماً سبقني إلى وصفه. إن كل منتجات أوروبا وآسيا كانت تتكردس في هذا المكان.

ومن جملة الزخارف التي ابتدعها الذوق، كان يُرى في ذلك المكان عدد كبير من التماثيل. إنه لشيء غريب حقّاً! فهذا الأمير كان درزيّاً أو مسلماً، وكلتا الديانتين تقضي تعاليمُهما الدينية بالابتعاد عن هذا الجمال المثالي.

وبعدُ، فمن يدري؛ فقد تكون تلك التماثيل غير كاملة؛ أي نصفية، وقد لا يكون هنالك منها إلا التماثيل النصفية. وهذا ما يغير عند ذاك وجهة النظر.

وإذ كنتُ رأيتُ في الجزائر بعض المسلمين الذين لا تردعهم وساوسهم من اقتناء علب تبغ نُقشت عليها تصاوير جميلة جدّاً، بحثتُ عن الأسباب التي تُحرِّم عند البعض ما يُحلِّله البعض الآخر، فأنبأني أحد الأفندية أن التماثيل الكاملة التي تمثِّل الأشخاص كما لو كانت في حالتها الطبيعية هي وحدها الممنوعة؛ ومن ثَمَّ فلا حرج عليهم - عند الضرورة - اقتناء تصاوير رجال ونساء شرط أن تكون نصفية".

المساهمون