بلادٌ لا تستحقّكِ

17 ديسمبر 2014
...وتغادر البلاد التي لا تنفكّ تلفظ أبناءها (Getty)
+ الخط -

في غرفة نوم صغيرتَيها، توضّب حقائبهما. حقائب السفر. تركض يانا وتناولها أرنبها الزهريّ المحشوّ. "ماما.. هل يستطيع باكو السفر معنا؟". تبتسم المرأة الشابة وتضع الأرنب في إحدى الحقائب، قبل أن تحتضن ابنتها الصغرى وتسمح لنفسها بذرف دموع حبستها طويلاً.

هي لا تتهيأ للذهاب وعائلتها الصغيرة إلى أوروبا في إجازة، بمناسبة أعياد آخر السنة. صحيح أن أوروبا هي الوجهة، إلا أن الدافع هو فرصة عمل لم تتمكّن من تفويتها.. لا بل من غير الجائز تفويتها.

هي فرصة عمل غير كل تلك الفرص التي حصلت عليها في هذه البلاد، هذا إن كنا نستطيع تسميتها "فرصاً". فتلك كانت أشبه بأمر واقع لا مفرّ من الرضوخ له وسط ظروف اقتصاديّة صعبة، والأهمّ في ظلّ غبن كبير يلحق بالطاقات الاستثنائيّة على خلفيّة محسوبيات وغيرها من المعايير.. باستثناء الكفاءة.

تنتهي من الحقيبة الأولى.. تغلقها وتبدأ بتكديس قصص الفتاتَين. بالتأكيد ستشتري لهما كتباً جديدة في بلاد المهجر، لكنهما تحبان هذه. لن تحرمهما منها. يكفي أنها تشعر بذنب، لأنها تسلخهما عن محيطهما.. المدرسة والرفاق والأجداد والأخوال والعمّات. يكفي أنها تلوم نفسها، إذ إنهما ستضطران إلى الاعتياد على سريرَين غير اللذَين ألفتا التقلّب فيهما أرقاً والاختباء تحت أغطيتهما من وحوش كوابيسهما. يكفي أنها تدرك بأسى، أنهما ستكبران في غرفةٍ جدرانها غير تلك التي خربشتا عليها بالألوان كلّ ما خطر لهما.

هما ستكبران. حقيقة، جعلتها تحسم قرارها. مستقبلهما، هذا ما يهمّ. ولا تأبه بالابتعاد عن منزل أسّسته وشريك حياتها قبل تسع سنوات، وعن شرفة وكنبة في زاوية اعتادت اللجوء إليها عندما يذهب الجميع إلى النوم.

فوق كتب الصغيرتَين، ترتّب ألبومات صور العائلة. لا تردع نفسها عن فتح أحدها. وتسرح في صوره. تبتسم، محاولةً كبح غصّة. لا بدّ من حمل كلّ الصور.. فتلك كفيلة بإنعاش ذكريات الصغيرتَين كلما أوشكتا على النسيان.

النسيان خطيئة. هل يُعقل أن ينسى المرء بلاده؟ لكن.. هذه بلاد لا تنفكّ تلفظ أبناءها. هل تستأهل أن يتمسّك بها هؤلاء؟ هل تستأهل العودة إليها ولو بذكريات تحملها بعض صور؟

المرأة الشابة لا تشعر بأي نقمة ولا بأي حنق تجاه البلاد. هي مسالمة بطبعها. كل ما تريده هو تأمين مستقبل لائق لابنتَيها اللتَين أتت بهما إلى هذا العالم.. فورّطتهما.

أيام قليلة وتحمل المرأة الشابة جواز سفرها وتأشيرتها وتغادر هذه البلاد التي لا تنفكّ تلفظ أبناءها. هي أيضاً، تستحقّ تقديراً ما لمؤهلاتها ومهنيّتها وشخصها...

بالتوفيق يا صديقة! وكوني كلّك ثقة بأن هذه بلاد لا تستحقّك.
المساهمون