هكذا أقفلنا باب البيت

30 مارس 2020
كانوا أربعة أشخاص في الصورة... وأنا (فيسبوك)
+ الخط -
لا أعرف صاحب الصورة ولا أين التقطها. ولا أعرف الأشخاص الموجودين فيها. لا أعرف المكان بذاته. وربما لم أكن لأعرف المناسبة لو كنا في يومٍ آخر. لكني أعرف أنني رأيتُ نفسي واقفاً مع الواقفين في الصورة. أضع راحتي يديّ فوق الزجاج مثل الواقفين الذين يضعون أيديهم محاولين تلمّس من يحبّونهم، ولو من وراء زجاج.

رأيتُ الصورة فدخلتُ فيها من دون إرادة مني ووقفتُ مع الواقفين محاولاً أن أقلّدهم. أتلمّس برودة زجاج الباب المقفل وأبحث من خلفه عن حرارة أناس أفتقدهم في هذه الأيام العبثية. دخلتُ إلى الصورة أبحث عن جميع الذين أحبهم، ولم يكن مهماً لي سواء كانوا من دمي أو من غير دمي.

كانوا أربعة أشخاص في الصورة، وأنا. عجوزان بشعرٍ أبيض وطفلان أشقران، وأنا. جدّان وحفيدان، وأنا. معزولان وحُرّان، وأنا. وربما كنا جميعاً معزولين في الصورة، لكن، كلّ واحدٍ منّا بطريقته، غير أنني لم أنتبه لهذا الأمر في تلك اللحظة. وكنا جميعاً، من دون أن نعترف بذلك، معلّقين بين الجانبين. كانت أجسادنا في جانب، لكن قلوبنا كانت في الجانب الآخر. وكان الباب مقفلاً بإحكام. أقفلنا الباب بإرادتنا عندما جاء من يقول لنا إننا يجب ألا نلمس بعضنا بعضاً لأن في هذا خطرا على من نحبهم. فعضضنا شفاهنا وقبلنا بذلك. لم يكن يفصل بيننا في الصورة إلا لوحٌ زجاجي صدّقنا أو حاولنا أن نصدّق أنه يحمينا من الذين نحبهم وأنه يحميهم منا. لوحٌ غير مرئي يكاد يشبه الفيروس غير المرئي الذي قلب حياتنا.

لقد أغمضتُ عينيّ فرأيتُ وجوهاً كثيرة في الصورة. ومع أني لا أعرف الأربعة الموجودين فيها، ولم ألتق بهم، لكنهم يشبهونني. لقد رأيتُ في الصورة ملامح وجوهٍ أحفظ تفاصيلها. رأيتُ نظرات عيون لا تغيب من بالي طوال اليوم، الذي بات نهاره مثل ليله. رأيتُ لهفةً في العيون البعيدة، وجفوناً تتراقص من شدة الشوق وقد راعها أن تلتقي من خلف زجاج هاتف محمول. رأيت أيادي تحتضن الهاتف وتمسّد برؤوس أصابعها زجاجه الرقيق كما تمسّد بالعادة شعر الأطفال وتداعبه وتسرّحه. رأيتُ وسمعتُ غصّات حبٍ مكتومة تخنق أصحابها من دون أن تخرج من صدورهم.



وأُفكّر. وأسأل نفسي: ترى متى صار الابتعاد أفضل طريقة للتعبير عن الحب؟ وكيف انقلب مسار الدنيا بهذا الشكل؟ ماذا فعلت بنا أيها الفيروس الشرير؟ ولماذا لم تختر غير خلايانا في بحثك عن التكاثر؟ لماذا طرقت باب جلدنا واضطررتنا إلى إقفال باب البيت؟
دلالات
المساهمون