يطبق لبنان خطة يقول إنّها تهدف لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية، لكنّ كثيراً من الملابسات المتعلقة بالحملة التي بدأتها وزارة العمل، يكشف عن استهداف لليد العاملة الأساسية للاقتصاد اللبناني
لا يختلف اثنان على أنّ وضع الاقتصاد اللبناني، وما يرتدّ منه على المستوى المعيشي للمواطنين، ليس في حال جيدة، بالرغم من كلّ التصريحات حول "وضع الليرة" و"مؤتمر سيدر" و"الخطط الوزارية" وغيرها. في الوقت نفسه، فإنّ هناك وجهتي نظر إحداهما سياسية تحجب الواقع والثانية اقتصادية - اجتماعية يراد لها الغياب التام. و"خطة مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية على الأراضي اللبنانية" التي أطلقتها وزارة العمل، ووافقت عليها الحكومة، تندرج أكثر في إطار وجهة النظر السياسية تلك. هذا على الأقل رأي خبراء وناشطين في الدفاع عن حقوق العمال؛ لبنانيين وغير لبنانيين، ينطلقون في توصيفهم وتحليلهم للواقع من وجهة نظر اقتصادية تشدد على فشل النموذج الريعي في لبنان.
تشير خطة وزارة العمل، التي بدأت تطبيقها من خلال إقفال عشرات المحال التجارية العائدة لفلسطينيين وسوريين في الأيام القليلة الماضية، إلى أنّ "لبنان يعاني من أزمة حادة في العمالة الأجنبية، وخاصة السورية منها، وقد تفاقمت هذه الأزمة بعد تدفق النازحين (اللاجئين) السوريين نتيجة الحرب في سورية، وقدّرت الحكومة اللبنانية عددهم بمليون ونصف المليون نازح، عام 2018، من بينهم 938.531 مسجلون لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ونتيجة هذا النزوح، اصبح مئات الآلاف من العمال السوريين أصحاب الكفاءة والمهارة ينافسون اللبنانيين في مختلف القطاعات ولم يعد يقتصر وجودهم على الأعمال الزراعية والبناء كما كانت الحال قبل الحرب السورية، فأصبحت بذلك العمالة السورية متواجدة في الفنادق والمطاعم وفي خدمات الاستقبال والإدارة والمستشفيات والصيدليات، والمهن الخاصة بالكهرباء والتجارة والخياطة وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، انتقلت مؤسسات بأسمائها التجارية على الأراضي السورية إلى العمل على الأراضي اللبنانية، بالإضافة إلى آلاف المحال غير الشرعية التي يملكها ويديرها سوريون". أضافت الخطة أنّ المشكلة الكبيرة هي أنّ "اللبنانيين لا يعملون بنفس شروط العمل التي يقبل بها السوريون أكان من ناحية دوام العمل أو الأجر".
تشدد خطة الوزارة على العمالة السورية تحديداً ولا تذكر الفلسطينيين أبداً، علماً أنّها قسمت العمال الأجانب قسمين؛ السوريون، والأجانب من غير السوريين، ما أوحى أنّها ضمت الفلسطينيين إلى القسم الثاني، وهو ما تبين من خلال الأيام القليلة الماضية التي استهدفت الفلسطينيين مع السوريين ولم تقدم لهم أيّ استثناء ارتفعت أصوات تطالب به، خصوصاً في اليومين الأخيرين.
خطة وزارة العمل هذه، بما تنطلق منه وما تسعى إلى تحقيقه، يرفضها "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين" غير الحكومي. يعلق رئيس المرصد، أحمد الديراني، لـ"العربي الجديد": "قبل كلّ شيء، نحن مع تنظيم سوق العمل اللبناني، لكن هل يعقل أنّ الخطة لم تأتِ على ذكر الجهة المخولة بتخطيط سوق العمل، وهي المؤسسة الوطنية للاستخدام؟ الأمر ببساطة أنّهم يعطلون دور المؤسسة كي تبقى الفوضى في سوق العمل". يقدم الديراني الرؤية الاقتصادية - الاجتماعية، التي يشير فيها إلى أنّ في لبنان نحو 35 ألف خريج جامعي سنوياً، لا يملكون غير 5 آلاف فرصة عمل، وهو ما يعني أنّ هناك "أعطاباً بنيوية لا يعالجها اقتصاد ريعي لا يؤمّن فرص العمل، بل يؤمّن السرقات والسمسرات وغيرها. أبرز مثال على ذلك قطاع العاملات المنزليات، الذي يضم نحو 400 ألف عاملة، وما فيه من مكاتب غير شرعية، فكان الحلّ بتعديل لغوي سخيف هو تغيير كلمة مكتب الاستخدام، إلى مكتب الاستقدام، وتشريع عمل هذه المكاتب". هكذا يعتبر الديراني أنّ الخطة "لا تقدم أو تؤخر، فهي لا تستند إلى دراسة للسوق بل هي مجرد تسابق سياسي ودعاية". أما عن أهداف الخطة التي تتحدث عن توفير المال للخزينة، فيقول الديراني: "هناك هدر بملايين الدولارات وفلتان في التلزيمات في أماكن عدة. الخلاصة أنّ هذه الطبقة السياسية لا يعوّل عليها في الإصلاح، أو في إدارة البلد".
يتطرق الديراني إلى الفلسطينيين وما حملته الأيام القليلة الماضية من استهداف لهم من خلال الخطة: "الفلسطينيون في لبنان لا يماثلون أيّ جنسية أخرى، ولا مجال للتعامل معهم بالمثل، فهم ليست لديهم دولة يمكنهم أن يعودوا إليها. الفلسطينيون مقيمون في لبنان، كما أنّ الإحصائية الحكومية اللبنانية الأخيرة أشارت إلى أنّ عددهم لا يتجاوز 170 ألفاً، لا يبلغ عدد القوة العاملة فيهم أكثر من 27 ألفاً، إذاً، هم ليسوا عنصر منافسة في السوق اللبناني".
لا يملك السوريون في لبنان القدرة على الاعتراض إذ لا تنظيمات أو هيئات أو أحزاب أو جمعيات ناطقة باسمهم ومطالبة بحقوقهم. أما الفلسطينيون، فقد شهدت مخيماتهم، ومعها المناطق المحيطة، تحركات رافضة لخطة وزارة العمل والحملة الحاصلة على الأرض، والتي انطلقت يوم الأربعاء الماضي، بالإضافة إلى سلسلة من المواقف الفصائلية الفلسطينية والحزبية والسياسية اللبنانية الرافضة، والداعية إلى استثناء الفلسطينيين، والنظر إليهم باعتبار وضعهم مختلفاً عن غيرهم، حتى من السوريين في لبنان.
أمس، اجتمع وزير العمل، كميل أبو سليمان، مع وزير الصناعة، وائل أبو فاعور، وعقدا مؤتمراً صحافياً شدد على "خصوصية الفلسطينيين". ومما جاء في كلام أبو فاعور: "هناك خصوصية للعامل الفلسطيني في لبنان منذ عام 1948، فهو يساهم في الدورة الاقتصادية، وهناك قوانين صدرت في مجلس النواب تراعي العامل الفلسطيني وتحتاج الى مراسيم تطبيقية فقط، ووزير العمل إيجابي في هذا الشأن". لكنّ أبو فاعور تطرق إلى جانب آخر هو العمالة السورية الأساسية في بعض القطاعات: "قطاع الصناعة يحتاج إلى اليد العاملة الماهرة، وبسبب إهمال الدولة لهذا القطاع في السنوات الماضية وصلت هذه اليد (اللبنانية) إلى شبه انقراض، وهكذا فالصناعي يقفل أبوابه من دون العامل الأجنبي في بعض قطاعات الصناعة، إذ تنقصه اليد العاملة اللبنانية في قطاعات عدة، كالخياطة مثلاً".
هذا القطاع بالذات يتحدث عنه أحد أصحاب المشاغل في بيروت إلى "العربي الجديد" متمنياً عدم ذكر اسمه. يشير إلى أنّه منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً فتح مشغله، بقدرة تشغيلية تتراوح بما بين 40 و60 عاملاً بحسب الموسم. وكان معظم عمال "الدرزة والحبكة والعراوي والأزرار والتفصيل والكي" من السوريين وأحياناً العراقيين، على عكس العمل بـ"النول والشكّ واللقطة (الخياطة اليدوية)" التي تعمل فيها لبنانيات وبعض السوريات. يقول عن تشغيل لبنانيين بالكامل كما تنصّ عليه شروط وزارة العمل، في مهنة الخياطة، إنّه غير ممكن، إذ لن يجد العمالة الماهرة الكافية لتشغيل مشغله، ومواكبة خط الإنتاج ومواعيد التسليم المفروضة عليه. يؤكد أنّه ملتزم بتشغيل عمال سوريين وعراقيين وأجانب آخرين بإقامات وإجازات عمل قانونية، لكنّه يشير في المقابل، إلى أنّ وزارة العمل ستفرض عليه إقفال مشغله فعلياً، إذا ما طبقت عليه شرط تشغيل اللبنانيين فقط (قرار 15 فبراير/ شباط 2018) في مهنة ليست فيها عمالة لبنانية غالباً. ويعلق على تصريح أبو فاعور: "أتمنى أن يتمكن من تغيير شيء بخصوصنا على الأقل".
جاءت حصيلة تفتيش وزارة العمل، الأربعاء الماضي، في أول أيام الحملة على الشكل التالي: 20 إقفالاً، و129 ضبطاً (تسجيل مخالفة)، و24 إنذاراً، فيما تبين أنّ 41 مؤسسة وضعها قانوني. أما عدد المؤسسات والمحال التي زارها التفتيش فبلغ 214. أما حصيلة اليوم الثاني، الخميس الماضي، فكانت: 11 إقفالاً، و156 ضبطاً، و25 إنذاراً. بالإضافة إلى حصيلة جديدة أمس الإثنين شملت 3 إقفالات، و81 ضبطاً و24 إنذاراً.
من جهته، يقول رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، التابعة للحكومة اللبنانية، الوزير السابق، حسن منيمنة، لـ"العربي الجديد" إنّ الخطة لا تلحظ قانون عام 2010 الذي يميز العمال الفلسطينيين عن العمال الأجانب: "هذا القانون ألغى مبدأ المعاملة بالمثل، وأعفى الفلسطيني من رسوم إجازة العمل. وهكذا فقد غاب عن نص خطة وزارة العمل أنّه لا يجوز معاملة الفلسطيني كأجنبي، وبالتالي يجب التعامل مع العامل الفلسطيني في إطار خصوصية وضعه، مع ضرورة حصوله على إجازة عمل كونها تتيح له الاشتراك في الضمان الاجتماعي، تحديداً صندوق تعويضات نهاية الخدمة". يردف: "هناك مجموعة من المشاكل في هذا الإطار، إذ إنّ الحصول على إجازة عمل مرتبط بربّ العمل وتسجيله العمال في الضمان، فهناك محلات صغيرة جداً لا تشترك في الضمان، وهو ما يجعل من المستحيل على العامل الفلسطيني فيها الحصول على إجازة العمل. كذلك، فإنّ الفلسطيني الذي يملك دكاناً صغيراً، أو بقالة، أو محل خضار، أو ورشة صغيرة، يفرض عليه القانون أن يملك 90 مليون ليرة لبنانية (60 ألف دولار أميركي) في حسابه المصرفي، وهو أمر مستحيل".
يقدم منيمنة الحلّ على المدى البعيد: "لا بدّ من مراسيم حكومية تطبيقية للقانون، كي لا تبقى الأمور تابعة لمزاجية الوزير الذي يتولى وزارة العمل، فإن جاء وزير موضوعي عمل على حلحلة الأمور، وإذا جاء وزير لديه موقف سياسي معين، عرقلها".
يختم منيمنة حديثه لـ"العربي الجديد": "في كلّ الأحوال، قابلنا وزير العمل اليوم (أمس)، وخضنا معه في نقاش حول هذه الأمور ووافق على درسها بهدف إيجاد حلول لها". وقد انضم إلى هذا اللقاء السفير الفلسطيني في لبنان، أشرف دبور، ونتج عنه اتفاق على تنظيم حوار ثلاثي في الأيام القليلة المقبلة، من أجل إيجاد معالجات عقلانية بما يتلاءم مع نصوص قانون العمل من جهة، وبما يساعد العمال الفلسطينيين على العمل والإفادة من مؤهلاتهم المهنية من جهة ثانية.