الشاعر السجين يبحث عن "لمبة" نور

24 فبراير 2014
+ الخط -

قال الشاعر عمر حاذق إنه يعيش الآن في سجون مصر حياة حقيقية يعيد فيها اكتشاف ذاته وانسانيته، ويدفع ثمن هذا كاملاً من حريته، فالحرية مثل المرأة الفاتنة لا تذوقها حين تتحدث عنها، بل حين تتورط فيها، على حد قوله.

وأضاف حاذق، في الرسالة التي كتبها من داخل محبسه في سجن الحضرة: في الشهور الأخيرة شعرتُ بضيق شديد ممّا في مجتمعنا من تمثيل ونفاق اجتماعي، ولاحظت أن كثيراً من علاقاتنا الإنسانية زائفة ومبنية على المجاملة، وبلا عمق.

من جانبها، قالت زهرة حاذق، أخت الشاعر، في تصريح لـ"العربي الجديد": إن عمر يعيش حياة صعبة داخل السجن، حتى أنه يحتاج إلى "لمبة" للإضاءة لأنهم يغلقون الأنوار عليهم ليلاً، ولا نستطيع تمريرها!

وأضافت: حين نذهب إلى الضابط للتفاوض يضع شروطاً لتمرير "اللمبة"، ولا يعني اتّباع الشروط الموافقة النهائية من قبل إدارة السجن، فالمسألة كلها رهن الاحتمال، أحياناً يسمحون وأحيانا لا!

وتابعت: نحاول بكل قوتنا التواصل مع الإعلام المقروء والمرئي لمتابعة القضية والتحدث بشأنها، حتى يظل الموضوع حياً إلى أن يفرجها الله من عنده، ويفرج "عنا".

يذكر أن الشاعر عمر حاذق هو أحد أبرز شعراء جيل الشباب في مصر، وهو شاعر وروائي، صدرت روايته الأولى وهو داخل السجن، حصل على المركز الثاني في مسابقة "أمير الشعراء" في أبو ظبي، وقام بتمثيل بلاده في مهرجان "الحب والسلام" العالمي في إيطاليا، وتم الحكم عليه بالسجن سنتين بتهمة التظاهر بدون ترخيص، ضد قَتَلة الشهيد خالد سعيد!

وكتب عمر رسالة من محبسه في سجن الحضرة، لخّص فيه تجربته الإنسانية في السجن والحرية، قال فيها:

أوسّع مساحة حريتي وإنسانيتي

أعلم أن أصدقائي قليلون، ولكن لهم حق عليّ أن أسلّم عليهم، وأن أقول لهم أنا مشتاق لكم يا أصدقائي، يا إخوتي في الحرية وفي محبة هذا الوطن المسكين، الوطن الذي يثور أحراره ليدافعوا عن الحب، لنقل حب الحياة، ليحب الفقراء الحياة أكثر، ويحب الجهلاء الحياة أكثر، ويحب المجرمون الحياة أكثر، ويعرفوا عنها ما لم يعرفوه من محبة.

أكتب لكم مساء الأحد 16/2/2014 بعد أن صدر حكم القاضي بتأييد الحكم السابق بحبسي سنتين وتغريمي 50 ألف جنيه. دعوني أقول لكم: لم يتوقع أحد هذا الحكم؛ مع ذلك أنا سعيد بحياتي في السجن.

كنت في أوائل ديسمبر/ كانون الأول أخطط للسفر وقضاء إجازة طويلة خارج الإسكندرية، لرؤية عالم جديد، للانفتاح على حياة أخرى، والإحساس بالإنسان إحساساً مختلفاً، هذا بالضبط ما أفعله الآن على نحو أعمق كثيراً مما كنت أخطط.

في الشهور الأخيرة، شعرتُ بضيق شديد مما في مجتمعنا من تمثيل ونفاق اجتماعي، ولاحظتُ أن كثيراً من علاقاتنا الإنسانية زائفة ومبنية على المجاملة، وبلا عمق، وزملائي في العمل يعلمون أنني منذ شهور امتنعت تماماً عن المشاركة في أي احتفال، وطلبت عدم الاحتفال بأي مناسبة تخصني، ولو بباقة ورد.

أشهد أنني هنا أعيش حياة حقيقية بلا زيف فيها. لا زيف في السجن، لأن الناس هنا تقاتل حتى تبقى على قيد الحياة، لا رغبة لأحد في مجاملة أحد سجين.

فى السجن وجدتُ مَن يفكر ويجتهد ليجعل حياتي أجمل وأيسر، ومَن يبتسم لي بمحبة وأخوّة لا شك فيها، بينما قلت كثيراً لأصدقاء صدموني منذ شهور، إن العلاقات الإنسانية أمر لا يجوز التفريط فيه لأن الحياة تفرّق بين الناس بقسوة، وبلا مقدمات، والناس يندمون كثيراً حيث لا ينفع الندم. وقد كان..

يا إخوتي في الحرية وفي محبة هذا الوطن الذي ينهض ويترنح، ينهض بنا فيرفسوه بأرجلهم، أريد أن أحكي لكم.. سألت نفسي كثيراً حين صدر الحكم الأول ضدى: ما معنى أن أعترض على ضرب متظاهر فيُحكم عليّ هذا الحكم؟ والحق أنني في السجن معزول تماماً، ولم أعرف بالتضامن الجميل معي إلا متأخراً.

هل يستحق الأمر ذلك؟ أقول لكم نعم. لا يتاح لإنسان أن ينمّي إنسانيته ويوسّع مساحة حريته إلا بثمن يدفعه، أعني ثمناً حقيقياً، موجعاً، يشعرني أنني أشتري حريتي وقيمتي كإنسان بثمنها كاملاً.

حين وصلت سجن الحضرة، رتّبتُ أغراضي القليلة ثم توضأت، وكان الماء بارداً حتى أنني ارتعشت من شدة البرد، وغمرني غمٌّ شديد: كيف أستحم والماء هنا كالثلج؟ كنت في اليوم التالي سأعرض على قاضي التحقيق، وتمنيت من أعماقي أن يطلق سراحي وتغلق القضية (وذلك منذ أكثر شهرين).

لم أتخيّل يومها كيف سأعيش وأستحم بهذا الماء، وكانت الزنزانة "قارصة البرد"، ويجب أن استحم يومياً بسبب طبيعة حياة السجن. حكم عليّ القاضي بـ15 يوماً على ذمة القضية، وعشتُ ليلة لا أنساها، ثم حزمت أمري وقررت الاستحمام كل يوم بالماء البارد، ثم انقطع الماء وجلست أنتظره متوتراً مغموماً، ثم جاء الماء فاستحممتُ وتحمّلتُ البرد، ولم أصدق أنني تجاوزت ذلك بقوة وبساطة، وواظبت على الاستحمام يومياً بماء كالثلج، حتى نقلت للزنزانة الدائمة، وفيها غلاية ماء (كاتل) لعمل الشاي وتسخين ماء الاستحمام، فظللت أستحم بالماء البارد ولاحظت أنه ينعشني لأنه ينبّه الحواس. عرفت أن حياتي منذ تلك اللحظة تغيّرت حتى آخر لحظة فيها. لا شيء مستحيل.

في البداية، كنت أواجه مشكلات كهذه كل يوم، وأتغلب عليها لحظة بلحظة حتى تزول.

الآن أنجزت جزءاً كبيراً من رواية جديدة فكّرت فيها قبل دخولي السجن، بدأتها هنا وأنا سعيد بها.

منذ عشرة أيام تقريباً وصلتني أول نسخة مطبوعة من روايتي: "لا أحب هذه المدينة"، وهذا معنى عجيب: تصلني أول نسخة من أولى رواياتي وأنا أتمتع بطعم حريتي وقيمتي كإنسان حر.. حين ينقلوننا لقاعة المحكمة يرتبون استحكامات أمنية تليق بقادة الجيوش وزعماء العصابات المرعبة. إنهم يخافون منّا.

الحرية مثل المرأة الفاتنة، لا تذوقها حين تتحدث عنها، بل حين تتورط فيها.

مساؤكم حرية يا أصدقاء.

عمر حاذق ـ زنزانة 5/ 2 ـ سجن الحضرة

الأحد 16/2/2014

المساهمون