تقاعد مريح أم خرافة؟

20 سبتمبر 2018
بعدما فقدنا كلّ أسناننا بات لدينا فول سوداني(جون كيبل/Getty)
+ الخط -
ما الذي يريده العمال من أرباب عملهم؟ راتباً يكفيهم، وتقديمات تدعمهم، وأماناً وظيفياً، وفرصة تطور مختلفة المستويات. هو ما لا يتحقق غالباً في منظومات رأسمالية لا يشبع فيها ربّ العمل عن طلب الربح، مهما كان ما يقدمه للعمال، في المقابل، ضئيلاً. على السطح هو يريد منهم أن يلتزموا نظام العمل، ويقدموا الجهد المطلوب منهم لإنجاز الأعمال وتعزيز الإنتاج. وفي العمق هو يريد أن يمتص دماءهم حتى، إذ يوظفهم إن تسنى له بأقلّ الأجور مقابل العمل المستمر والمتعب ساعات طويلة.

وبينما يؤدي ذلك غالباً إلى ترك العمال أعمالهم إذ لا يتحملون ما يقعون تحته من قهر، فإنّ رائدَي مدرسة فرانكفورت أدورنو وهوركهايمر، منذ منتصف القرن الماضي، يخبرانا أنّ اقتصاد السوق الأميركي تمكن من تجاوز ذلك الهروب من العبودية، من خلال إعادة شحن العامل بالنشاط وإعادته بعد الإجازة الأسبوعية التي تتوافر فيها أساليب الترفيه المختلفة وتحاصره بأنماط ثقافية محددة إلى عمله، فيكون من الصعب جداً الفكاك منه، وإن كان يعيش في بيئة اقتصادية واجتماعية ليبرالية... على السطح أيضاً.

هكذا يصبح العمل وإن كان منهكاً ينال من صحة الموظف أو العامل، أليفاً، إذ تموت روح المبادرة تلك، ويرضخ للمكان الذي وجد نفسه عالقاً فيه، بانتظار انتهاء ساعات الدوام اليومي، وبانتظار الإجازة الأسبوعية، والراتب الشهري، والتقاعد المريح الموعود، ما يجعله راضياً وظيفياً، خصوصاً إذا ما اقترن ذلك بقروض مصرفية حاضرة يتغافل عن كونها تسرق من راتبه الضئيل أساساً.




هو فخ واضح خصوصاً إذا ما وصل العامل إلى مستوى "الاغتراب" كما يدعوه ماركس، أو مستوى "التشيؤ" كما يحلل لوكاش بشكل أدق. لكن، هل من مهرب؟ لنقرأ هذا الحوار:

- يجب أن نعمل في ما لا نحب كي نتمكن يوماً ما من أن نعمل في ما نحب.
-- لكن، بإمكاننا منذ الآن أن نعمل في ما نحب.

- الأشياء التي نحبها غالباً ما لا يكون لها مردود مالي كافٍ، وهكذا لن نتمكن من جمع المال اللازم كي نعمل ما نحب يوماً ما.
-- لماذا ننتظر ذلك اليوم؟ فلنعمل منذ الآن ما نحب ويكون مردودنا المالي صغيراً مع إدارة دخل جيدة، فإذا أتى ذلك اليوم الذي تحكي عنه أم لم يأتِ لا فارق لدينا عندها.

- هكذا تخالف أصول العمل الطبيعية، بما فيها من تقاعد مريح موعود يتيح لك أن تفعل ما تريد لاحقاً.
-- على العكس، هكذا أخالف تلك الأنظمة النابعة من قوالب نمطية تكبلنا، وتجعلنا نتوهم أنّها طبيعية.

- لن أزيد على أنّ هذا المسار سيؤدي بك إلى التهلكة في نهاية المطاف.
-- ما همّي بذلك، طالما أنّك أنت الذي تحذر من التهلكة تعيش فيها الآن وتكاد تموت من التعب الجسدي والذهني، كما أنّ احتمال تفاديك التهلكة في نهاية المطاف ليس كبيراً جداً، فتقاعدك المريح يبقى احتمالاً وليس حقيقة راسخة، بل لعلّك تتذكر معي قول لاوشه: "بعدما فقدنا كلّ أسناننا بات لدينا فول سوداني". ومن جهتي ربما أصل إلى التهلكة فعلاً، لكن بعدما أكون قد أمضيت عمراً كاملاً أعمل في ما أحبّ، فما همي حينها إن تلقيت التهلكة دفعة واحدة مهما كانت كبيرة، بينما تتلقاها أنت طوال خمسة وثلاثين عاماً وأكثر، أقساطاً شهرية لا تنتهي؟
المساهمون