الجنيه المصري وتصريحات الهواة

11 ديسمبر 2019
الطلب على الجنيه لم يتزايد في 2019(خالد الدسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
تناقلت وكالات الأنباء والصحف تصريحات واحد من المسؤولين المصريين، وهو وزير المالية محمد معيط، قبل يومين، تحدث فيها عن وصول الجنيه المصري إلى المرتبة الثانية في "أفضل" أو "أقوى" عملات العالم، وهو ما أرجعه إلى "السياسات الحكيمة التي اتبعتها الحكومة المصرية لتقليل الضغط على العملة"، مستبعداً تعرض العملة المصرية إلى "أي ضغوط" خلال العام القادم 2020.

وحقيقةً لا أعرف مدى اقتناع المسؤول المصري بالتصنيف الذي قال إنه نقله عن "مؤسسات عالمية"، كما أني لست على يقين من درجة فهمه لمعنى "قوة العملة"، إلا أن الأمر أحيا لدي بعض الشجون التي وددت أن أعبر عنها.

بداية، أؤكد أن الجنيه المصري كان بالفعل من أفضل عملات العالم "أداء" أمام الدولار الأميركي خلال العام الذي أوشك على نهايته، حيث أصبح الدولار اليوم لا يشتري إلا 16.15 جنيها، بعد أن كان يشتري 17.85 جنيهاً عند مطلع العام، وبنسبة ارتفاع تقترب من 10%.

لكن العبارة السابقة لا تعني أن ما تحدث به المسؤول المصري كان صحيحاً، حيث إن أهم ما في الأمر هو الأسباب التي أدت إلى تحقيق ذلك الأداء، وهي التي أزعم أنها تستبعد الجنيه المصري من مصاف العملات القوية!

الجنيه المصري لم يكن الأفضل أداء بفعل قوى العرض والطلب، حيث إن الطلب عليه لم يتزايد خلال عام 2019، نتيجة لاستمرار العجز في الميزان التجاري المصري، المحرك الأكبر للطلب والعرض على الجنيه، وأغلب عملات العالم. وتجاوز العجز في كل شهر من شهور العام الحالي 3 مليارات دولار، عدا شهراً واحداً انخفض فيه ليصل إلى 2.7 مليار دولار، وهو ما يعني أن العجز السنوي يتجاوز 36 مليار دولار.

ورغم الحديث عن الاكتشافات النفطية، وزيادة إنتاج النفط الخام، والاستغناء عن استيراده، كما اكتشافات حقول الغاز، لم ينتج عن كل تلك "التحولات الرائعة" و"الاكتشافات المذهلة" إلا الوصول إلى نقطة التعادل، التي تساوى عندها تصديرنا واستيرادنا من المواد البترولية، بصورة تنفي أي مساهمة إيجابية في سد العجز التجاري.

ومن ناحية أخرى، مازالت إيرادات قناة السويس، بعد التفريعة الجديدة تتراوح بين 5 - 5.5 مليارات دولار سنوياً، وهي نفس المستويات التي كانت سائدة قبل عشر سنوات. أيضاً اختفى الاستثمار الأجنبي المباشر كما أكد رئيس الدولة قبل أيام، ولم يتبق إلا مليارات قليلة من استثمارات الأموال الساخنة، اللاهثة وراء معدلات الفائدة المرتفعة على الجنيه، لا تتجاوز 4.5 مليارات بعد أن كانت عشرين مليار دولار قبل عامين.

ورغم الإعلان عن تجاوز إيرادات السياحة المصرية مستوياتها القياسية التي حققتها في 2010، إلا أن الحصيلة لم تنجح أيضاً في تعويض ما يخرج من البلاد مقابل ما نستورده من سلع وخدمات، خاصة مع وجود ما يطلق عليه سياحة عكسية، حيث اعتادت طبقة معينة في مصر على الاستمتاع بالعطلات، كما السفر للتعليم والعلاج وأحياناً الاستثمار، خارج الوطن، وبغض النظر عن ما يمثله ذلك من ضغط على العملة المصرية.

وبات البند الوحيد المحتفظ بقوته هو بند تحويلات المصريين في الخارج، والذي بلغ في 2019 حوالي 27 مليار دولار، إلا أن الطرف الثاني من المعادلة، وهو ما يخرج من تحويلات المصريين إلى الخارج، يحد بصورة كبيرة من تأثيره. وبعد أحداث يونيو - يوليو 2013، وما أعقبها من توحش السلطات المصرية، وبطشها بكل معارض لها، اضطر عشرات الآلاف من المصريين إلى الخروج بأزواجهم وأبنائهم، هرباً من قمع السلطات، أو بحثاً عن فرص معيشة أفضل، الأمر الذي ترتب عليه تحويل ما تقدره بعض الجهات بمليارات الدولارات إلى خارج البلاد.

الذي حدث إذاً هو أن قوى الطلب على الدولار في مصر كانت خلال العام الحالي، كما الأعوام التسعة التي سبقته، أكثر مما كانت على العملة المصرية، الأمر الذي كان يفترض أن يزيد من ضعف الجنيه لا قوته. لكن، وحيث إن البنك المركزي المصري يتبع سياسة يطلق عليها التعويم المدار managed float، وتسميها بعض الأدبيات التعويم القذر dirty float، لم يُسمح لقوى العرض والطلب بتحديد سعر الجنيه مقابل الدولار، وإنما كان البنك المركزي هو من يحدده!

في كل صباح، يقوم البنك المركزي المصري، بالاتصال بأذرعه في السوق المصرفية، سواء كانت بنوكا حكومية، أو بنوكا خاصة من كبار المتعاملين في سوق العملة، لإملاء السعر الذي يتم التعامل عليه خلال اليوم، كما الهامش المسموح بالتحرك خلاله، وهو ما سمح لقيمة الجنيه بالارتفاع، على عكس ما يفرضه واقع الأمر. واستفاد البنك المركزي من القروض التي يحصل عليها من الخارج، وتحديداً من السعودية والإمارات، بالإضافة إلى صندوق النقد الدولي، في تلبية احتياجات كبار المستوردين، ومنهم بالطبع مؤسسات سيادية وأمنية اقتحمت مجال الاقتصاد المصري خلال السنوات الأخيرة وسيطرت على مفاصله، عند الأسعار التي يحددها هو بعيداً عن آليات السوق.

الخلاصة إذاً هي أن العملة المصرية كانت بالفعل من أفضل العملات أداءً خلال 2019، كما يظهر من تطور سعرها خلال العام، إلا أن ذلك كان نتيجة لتحديد البنك المركزي لسعرها، لا نتيجة لآليات السوق. ولم يكن البنك المركزي لينجح في ذلك إلا من خلال استيلائه على القروض الأجنبية الواردة للبلاد، وبيعها للمستوردين، ضارباً عرض الحائط بأساسيات إدارة النقد الأجنبي في بلد يعاني من عجز دائم في ميزان مدفوعاته.

تجاهُل البنك المركزي حقيقة أن تلك الديون سيتعين ردها عند استحقاقها بالعملة التي تم الاقتراض بها ينذر بوجود قنابل موقوتة في ملف سعر الجنيه مقابل الدولار، ربما يعتمد المسؤولون الحاليون على حقيقة "إنك ميت وإنهم ميتون" قبل حلول موعد انفجارها، في استمرار واضح لسياسة تحميل الأجيال القادمة من عامة الشعب تبعات ما نفعل، بينما يزود أغلب المسؤولين أبناءهم بجوازات سفر تسمح لهم بالخروج بثرواتهم قبل تعرض البلاد لأي أزمات.
دلالات
المساهمون