تعيش فرنسا حالة من الاحتقان الاجتماعي المعمَّم، بدأته حركة "السترات الصفراء" في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وهي مستمرة في حركاتها وتظاهراتها ومحاصرتها للعديد من الطرق السيارة والمتاجر ومحطات البنزين ومقارّ النواب البرلمانيين والمنتَخبين المحليين.
وتستعد فرنسا لتظاهرات واسعة النطاق من المقرر أن تشهدها غدا السبت في جادة الشانزليزيه، التي قبلت السلطات الفرنسية، على مضض، فتحها أمام المتظاهرين، مع دفع أعداد إضافية من الشرطة والدرك، منعا لأي طارئ، في محاولة لتلافي تكرار ما حدث السبت الماضي من أعمال عنف وشغب طاولت المتاجر، وهو ما ينذر بوقوع خسائر مالية كبرى مع اقتراب أعياد الميلاد المجيدة.
واندلعت هذه التظاهرات، في البداية، احتجاجا على الارتفاع الكبير والمتواصل في أسعار المحروقات وتزايد الرسوم والضرائب عليها، ثم وصلت إلى ملف مطلبي يشمل قطاعات عدة محفوفة بدعمٍ شعبي لا يلين، وبشكل غير مسبوق في التاريخ الفرنسي.
وعلى الرغم من الالتفاف الشعبي الواسع على هذه الحركة، التي تتجاوز الأحزاب السياسية والنقابات، لا تزال الحكومة مصرّة على المضيّ قُدما في تنفيذ زيادات تعتبرها ضرورية في الانتقال الإيكولوجي، وتحاول معالجة الشق الاجتماعي عبر تقديم مساعدات من نوع "مساعدة على المحروقات"، وأيضا تحفيز المواطنين على تغيير سياراتهم الملوِّثة بسيارات أقل تلويثاً وخاصة السيارات الكهربائية أو الهجينة، بمنح كلّ عائلة تسير في هذا الاتجاه مبلغ 4 آلاف يورو.
لكن هذه الإجراءات اعتبرتها "السترات الصفراء" غير كافية، وخاصة مع انخفاض شديد في القدرة الشرائية للكثير من الفرنسيين، الذين "لا يستطيعون بلوغ نهاية الشهر" و"الذين تدوّي ثلاجاتهم بفراغها"، كما يقول كثير من ممثلي هذا الحراك.
وإضافة إلى هذا الموقف الحكومي العاجز عن اجتراح حلول تُرضي بعض مَطالب "السترات الصفراء"، أو تشق وحدتهم، كما يحاول رئيس الحكومة إدوار فيليب، أثناء استقباله وفدا من السترات الصفراء بعد ظهر اليوم الجمعة، جاء خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون، يوم الثلاثاء الماضي، مخيّبا للآمال.
وسبب الخيبة إغفال ماكرون الحديث عن المعاناة اليومية للمتظاهرين، واكتفائه بالتركيز على حُلول المدى البعيد، من إغلاق محطات الفحم الحجري، وبعض المحطات النووية، وفتح استشارة كبرى خلال 3 أشهر.
ورغم أن 60% من الفرنسيين أعلنوا، حسب استطلاع للرأي أجراه معهد أودوكسا، أن الإجراءات التي أعلنها ماكرون جيدة، إلا أنهم "مقتنعون بأن هذه الإجراءات المتعلقة بالانتقال الإيكولوجي لا فقط لن تكون فعّالة من أجل البيئة، بل أيضا ستضر بالقدرة الشرائية"، وهذا ما يراه 73% من المستجوبين، و"ستزيد من التفاوتات في فرنسا"، حسب 75% من الفرنسيين.
كما أن أيّا من هذه الإجراءات لا يستجيب لانتظارات "السترات الصفراء"، المتمثلة في التراجع عن الزيادة المنتظرة في يناير/ كانون الثاني 2019، كما يرى 79% من الفرنسيين.
وعلى الرغم من ترحيب السترات الصفراء بـ"الاستشارة الكبرى" في فرنسا، وبدعوتهم للمشاركة فيها، إلى جانب أحزاب ونقابات ومنتخبين وفاعلين، إلا أنهم يريدون شيئا ملموسا، من نوع قبول الحكومة بتجميد الزيادة المنتظَرَة في يناير/ كانون الثاني 2019.
وهذا ما يطالب به قادة أحزاب المعارضة، بشتى أطيافها، من ميلانشون الذي أعلن مشاركته في تظاهرة الشانزليزيه غدا بصفة شخصية، وبعيدا عن وسائل الإعلام، إلى مارين لوبان، مرورا بقادة سياسيين انضاف إليهم حزب الموديم المتحالف مع ماكرون، وأيضا بعض نواب حركة ماكرون، ومن بينهم النائب باتريك فينيال، وأيضا النائب البرلمانية من أصول تونسية سونيا كريمي التي ارتدت السترة الصفراء، متسببة في غضب قيادة حزبها وطلب البعض طردها.
وإضافة إلى الاحتضان الشعبي لحركة "السترات الصفراء"، الذي أكدته مؤسسة "أودوكسا" لاستطلاعات الرأي التي تحدثت عن دعم 84% من الفرنسيين، عبّرت غالبية الفنانين والمثقفين والسياسيين عن دعم هذا الحراك.
من هؤلاء برنار بيفو، وهو من رجالات الأدب الشهيرين، الذي كتب في تغريدة له: "يزداد عدد الفرنسيين الداعمين للسترات الصفراء أكثر فأكثر، لأنهم يرون أنه تحت ستراتهم توجد قلوبٌ تعاني، وتحت التجاعيد توجد حيَوَاتٌ أصابتها الخيبة، وتحت الصرخات يوجد صمت الفقراء".
وعاد برنار بيفو ليُصالح بين النُخَب والشعب فكتب: "من أجل مصالَحة المشاكل الاقتصادية في نهاية الشهر والقضايا الإيكولوجية في نهاية العالَم، لِنتمن أن تكون نهاية العالم في نهاية هذا الشهر".
والطريف أن من بين مؤيدي السترات الصفراء غير المنتظرين، الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند الذي طالبهم بمواصلة حراكهم، وهو ما أثار حنق ماكرون الموجود في الأرجنتين للمشاركة في قمة قادة "مجموعة العشرين"، الذي انتقد مسؤوليات الحكومات السابقة في أزمة اليوم. ماكرون أكد أنه "لن يتراجع"، وغامزاً من قناة هولاند، أطلق جملة: "السينيكية تعتبر جزءاً من السياسة".
كما حظي الحراك أيضا، بدعم كبير ومتواصل، منذ أيام، من الوزيرة الاشتراكية السابقة سيغولين روايال، التي نصحت الحكومة بالتراجع عن هذه الزيادات "غير العادلة".
وإضافة إلى تظاهرات السترات الصفراء، ستشهد باريس غدا السبت في ساحة ناسيون، عند الساعة الثانية بعد الظهر، تظاهرة أخرى "ضد العنصرية والليبرالية الجديدة"، دعا إليها "تجمع روزا باركس"، تيمنا بهذه المناضلة الأميركية السوداء التي رفضت في 1 ديسمبر/ كانون الأول 1955، التخلي عن مقعدها في باص لفائدة البِيض. "ظلت جالسة في مقعدها، كي نعيش نحن واقفين"، كما يقول بيان "تجمع روزا باركس".
من باريس إلى ساحات المدن والبلدات
ولن تقتصر التظاهرات على باريس، بل ستعم الساحات المركزية في المدن والبلدات، من أجل "المطالبة بالمساواة والكرامة للجميع". ويشدد هذا التجمع في بياناته على أنه "لن تكون هناك جبهة موسعة ضد حكومة ماكرون أو ضد الفاشية التي تطل برأسها، إذا ما توَاصَل تجاهُلُ الهجرة والضواحي التي تضم ملايين من البشر".
ولحد الساعة، يرفض هذا التجمع الدعوة لدعم السترات الصفراء، لا فقط بسبب مواقف بعض أعضائها الذين سلّموا بعض المهاجرين السرّيين لقوات الشرطة والدرك، وسط صيحات عنصرية مهينة، وهو ما أدانه النائب عن "فرنسا غير الخاضعة" فرانسوا روفان، بل أيضا بسبب الاعتزاز المفرط لبعض ممثلي "السترات الصفراء" بأصولهم الفرنسية "الغالية".
وقد حصلت هذه التظاهرة على دعم "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية" و"الحزب الإيكولوجي" ونواب الحزب الشيوعي، وفرنسا غير الخاضعة، ونقابات عمالية كـ"سي جي تي" و"سوليدير" والفدرالية الوطنية للشغل والفدرالية النقابية المتحدة.
وستكون هذه المسيرة ضد "عنصرية الدولة"، التي تثير كثيرا من الجدل في فرنسا. ولكن أعضاء هذا التجمع يصرّون على انتقاد وجود ما يرونه "عنصرية مؤسساتية"، مطالبين بالمساواة والكرامة.
مشاركة قطاع التعليم العالي
حراك اجتماعي آخر، ويخص قطاع التعليم العالي في فرنسا، فجره قرار الحكومة في زيادة رسوم التسجيل لسنة 2019 بشكل صاروخي على الطلبة، مستثنية المنحدرين من دول الاتحاد الأوروبي. وليس خافيا أن الضحية الكبرى، هم الطلبة المغاربيون والأفارقة، وخاصة أن أوضاع الطلبة الصينيين والهنود أحسن حالا.
وينص القرار الحكومي، على رفع التسجيل في مستوى الليسانس من 170 يورو إلى 2770 يورو سنويا، ورفع رسوم التسجيل في الماستر من 243 يورو إلى 3770 يورو.
وهذا ما أثار غضب كثير من النقابات الطلابية ومن رؤساء الجامعات الفرنسية ومن سياسيين، على رأسهم بونوا هامون، المرشح الاشتراكي السابق في الانتخابات الرئاسية، ووزير التربية الوطنية الأسبق، الذي اعتبر هذه الزيادات "انحرافا كليا في ما يخص التعاون وتقاسم المعارف والرهان على الذكاء"، وأضاف بأن "الزيادة كارثة"، إذ "يمكن رؤية طلبة صينيين وهنود، ولكن مع غياب أي طالب من أفريقيا الصحراء ومن المغرب العربي"، وسـ"يتيح الأمر ضرب عصفورين بحجر، إذ لن يوجد أسْوَد وعربي".
واحتجاجا على هذا القرار الحكومي، تحركت النقابات الطلابية في كثير من الجامعات. وسيشهد يوم غد السبت، تظاهرة طلابية أمام البانثيون (مقبرة العظماء) الباريسية، للتنديد بهذا القرار. وتدعم هذا الحراك الطلابي نقابة "الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا" ونقابة "لافاج" (أكثر النقابات تمثيلية)، مع العشرات من النقابات الطلابية التي تمثل الطلبة الأجانب.
والطريف أن نقابة "الاتحاد الوطني الجامعي"، المقربة من حزب "الجمهوريون"، تنتقد القرار الحكومي، ولكنها لن تكون حاضرة. ويدعم هذا الحراك عريضة توقيعات تدين القرا الحكومي، قطفت أكثر من 240 ألف توقيع في أسبوع واحد، وهي تحت شعار: "نفس الدراسات، نفس الحقوق".