ومع ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، والاهتزازات التي أصابت الاقتصاد اللبناني، لا سيما بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، في العام 2005، بدأ الحديث عن تحرير سعر الصرف يتسرب إلى صالونات السلطة، أي ترك تحديد سعره لعوامل العرض والطلب.
فعلياً، كان مطلب تحرير سعر الليرة أمام الدولار على لسان بعض المسؤولين والاقتصاديين، خلال تمتع لبنان بمؤشرات اقتصادية قوية. إذ كان تحريرها حينها، يعني تقليصاً للدين العام، ورفعاً لسعر الليرة أمام الدولار، أو بمعنى آخر تقوية العملة المحلية وزيادة قدرتها الشرائية، وكذا كان مطلباً (ولا يزال حتى اليوم) لتغيير النظام النقدي الذي يعتبره العديد من الاقتصاديين اللبنانيين قائماً على معادلة زيادة ثروة الأقلية، وضمنها المصارف ومن يقف خلفها من السياسيين، على حساب الأكثرية.
واليوم، مع انحدار المؤشرات المالية، ودخول لبنان في دوامة قاسية من ارتفاع الدين العام وعجز ميزان المدفوعات خصوصاً، أصبح تحرير سعر الصرف هاجساً، إذ يحذّر البعض من كونه سيؤسس لانهيار اقتصادي واجتماعي شامل، في حين يستبعد البعض الآخر الوصول إلى هذه المرحلة.
ما قصة تثبيت الليرة اللبنانية؟ ولماذا التحذير من تحرير سعر الصرف اليوم؟
مرّت الليرة اللبنانية بمراحل متعددة من الصعود والهبوط. إذ كان سعر صرفها يراوح بين ليرتين وصولاً إلى ثلاث ليرات حتى مطلع الثمانينيات، أي أنّها حافظت على قوتها في عز الحرب الأهلية التي انطلقت في العام 1975.
واستكملت العملة اللبنانية مسيرة الهبوط أمام الدولار، لتصل في العام 1992 إلى حدود 3000 ليرة للدولار الواحد. وحين وصول الرئيس السابق رفيق الحريري إلى سدة رئاسة الحكومة، وتعيين رياض سلامة حاكم مصرف لبنان في العام 1993، كانت الليرة قد سجلت معدلاً ما بين 1800 و1900 ليرة تقريباً، ليصار في نهاية التسعينيات إلى تثبيتها عند حدود 1507 ليرات.
ماذا حصل؟ لماذا تم التثبيت؟
يشرح الخبير الاقتصادي لويس حبيقة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّه خلال العام 1988 حصل انهيار لسعر الصرف، كان الدولار يوازي 2.3 ليرة، وبدأ انهيار السعر تدريجياً وصولاً إلى 3 آلاف ليرة، في مطلع التسعينيات.
يتذكر حبيقة أنّ "أحد أبرز الأسباب التي أدت للانهيار، هو قرار شراء أسلحة للجيش اللبناني من الموازنة العامة، وذلك للمرة الأولى بعدما كان التسليح يتم عادة من خلال التبرعات".
ويلفت إلى أنّ "آلية التمويل كانت خاطئة، إذ تمت طباعة العملة اللبنانية بكميات كبيرة لشراء الدولار من السوق، وتمويل صفقات الأسلحة".
حينها غرقت السوق اللبنانية بالليرات، فانهارت العملة، بالتزامن مع أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية كانت تضغط كذلك في هذا الاتجاه، إضافة إلى مضاربات واسعة من السوق السوداء لم يكن باستطاعة البنك المركزي (مصرف لبنان)، السيطرة عليها.
ويذكّر حبيقة بأنّ "مستوى الهجرة الذي شهده لبنان خلال فترة انهيار الليرة، خاصة لليد العاملة المتخصصة، كان مذهلاً، ويكاد يفوق نسبة المهاجرين بسبب الحرب الأهلية".
يضيف: "في العام 1989 تم توقيع اتفاق الطائف، وجاء رفيق الحريري في نهاية العام 1992 رئيساً للحكومة، مع فريقه وضمنه رياض سلامة الذي كان يعمل معه في شركة (ميريل لينش)، وتم التوافق على قرار لتثبيت سعر صرف الليرة لاستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين بالاقتصاد وبمصرف لبنان، وأصبح سعر الدولار من حينها 1507 ليرات".
ويشرح حبيقة: "المشكلة أنّه لا يمكن الخروج من تثبيت سعر الصرف بسهولة، والتراجع عن هذا الموضوع يخيف الناس، حتى من لم يعيشوا فترة الثمانينيات يعلمون عن التجربة المريرة التي عايشها اللبنانيون خلال هبوط الليرة. إذ لا يمكن التخلي عن التثبيت إلا بعد فترة استقرار اقتصادي وسياسي وأمني طويلة، وهذا ما لم يحدث سابقاً".
يلفت الخبير الاقتصادي إلى أنّ "الاقتصاد اللبناني عاش بين نارين، النظام السوري من جهة، والاعتداءات الإسرائيلية من جهة أخرى، إذ لا تلبث المؤشرات أن تصعد حتى تعود للنزول مع الهزات الأمنية والسياسية". و"مع أنني مع تحرير سعر الصرف، والامتثال لقواعد السوق، إلا أنّ تحرير الليرة خلال فترات الأزمات، أعتبره انتحاراً اقتصادياً واجتماعياً"، يضيف حبيقة.
وينبّه إلى أنّ "احتساب كلفة تثبيت سعر الصرف على الاقتصاد صعبة، ولكن يمكن القول إنّ طمأنة اللبنانيين والمستثمرين كانت مفيدة، الموضوع لا يحسم مادياً ولكن يحسب نفسياً. فتثبيت سعر الليرة طمأن المستثمرين، وكذا المواطنين الذين لا يثقون بالإدارة الاقتصادية والسياسية لبلادهم، ولا بعملتهم، وبالتالي قامت السلطة بوضع ثقة المواطن بالدولار، أي باقتصاد الولايات المتحدة الأميركية".
ويعتبر حبيقة أنّه "لو لم يتم تحقيق التثبيت، لكانت التأثيرات ستكون كبيرة على القرار الاستهلاكي، وعلى زيادة الهجرة، وكذا على إضعاف السياحة خاصة الاستثمارات منها. كذا، كانت استمرت المخاطر على رواتب القطاع العام والخاص. في حين أنّ التأثيرات السلبية كانت ستطاول الميزان التجاري، كوننا بلداً يستورد غالبية سلعه بالدولار".
ولكنّه يؤكد من جهة أخرى، أنّ "التثبيت هو قمع تأثيرات السوق على العملة المحلية، وهو وضع غير طبيعي ولا يمكن أن يستمر". ويشير إلى أنّ "لتحقيق الاستقرار النقدي ثمنه، وهو ضمناً رشوة القطاع المصرفي بالفائدة المرتفعة".
كيف استفادت المصارف والسياسيون من التثبيت؟ وما الكلفة على الاقتصاد؟
يقول الخبير الاقتصادي اللبناني إيلي يشوعي، إنّ "تثبيت سعر الصرف كان بسبب خطأ ودعاية شخصية ولتحقيق الإفادة الخاصة". ويضيف أنّ "اللبنانيين واجهوا فترة طويلة من عدم الاستقرار والتقلبات الحادة في سعر الصرف، إلى أن جاء الحريري وسلامة وقررا تثبيت سعر الصرف مهما كلف الأمر".
ومن أجل دعم هذا التوجه، تم رفع الفوائد على السندات والودائع بالليرة، وفق حديث يشوعي مع "العربي الجديد". وكان الدولار قد تعدى 1800 ليرة، فتم تثبيته عند 1500 ليرة، "في حين كان المفروض أن يتم توظيف الاقتراض الواسع الذي حصل خلال تلك الفترة، لبناء اقتصاد قوي يدعم سعر الليرة وفق مبادىء السوق"، كما يقول.
ويعتبر يشوعي أنّه "في لبنان، صاحب المال يكافأ بسخاء، والمستثمر يُعاقب، بما يعاكس القواعد البدائية في علم الاقتصاد. إذ بدلاً من تشجيع المتمولين على ضخ استثمارات في السوق اللبنانية، حصل تشجيعهم على زيادة ثرواتهم من خلال الريع".
ويضيف: "هكذا، وصلت نسبة الفوائد إلى ما بين 35 إلى 40% على السندات بالليرة، وحصل شراء كثيف للسندات من قبل المصارف والأفراد من لبنانيين وعرب، وتكوّنت الثروات وتم تفريغ البلد من طاقاته المالية والمبادرات الاستثمارية وفرص العمل. وأصبح كل شيء مباحاً من أجل اكتناز المال وبناء الثروات الشخصية، كون المال يضمن بقاءهم في السلطة، وبقاؤهم يعني جمع المزيد من المال".
أما عن كلفة التثبيت على الاقتصاد، فيلفت يشوعي إلى أنّها كانت "باهظة"، ويذكّر بـ"رفع العجز في الموازنات العامة السنوية، وارتفاع الدين العام وخدمته، وخلخلة المنظومة النقدية والمالية، وما تبع ذلك من محاصصات خلال فترة إعادة الإعمار حتى اليوم، حتى تراكمت على لبنان ديون تفوق الـ100 مليار دولار".
ويتابع: "المسؤول عن خراب اقتصاد لبنان، فوائد البنك المركزي، وفساد الطبقة السياسية. لبنان أفقروه وحرموه من أساسيات الحياة الكريمة. مثلاً ما يتم الحديث عنه في ما يتعلق بإصدار اليوروبوندز بقيمة ملياري دولار بفوائد تفوق 14%، يعني أننا سندفع 300 مليون دولار لشراء السندات، أي لا تزال السلطة المالية والنقدية تدور في الدائرة ذاتها".
وحول الحديث عن تحرير الليرة أخيراً، يقول يشوعي: "فلنتعبر أنّ لبنان حصّل ملياري دولار من اليوروبوندز، فذلك لن يكفينا أكثر من عام واحد. باختصار يوجد فريق مالي في البنك المركزي وفريق سياسي متفقان ضد مصالح المواطن".
لماذا عاد الحديث عن تحرير سعر الليرة، وما هي التداعيات المحتملة؟
يشير الخبير المالي وليد بو سليمان، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّه "توجد اليوم ضغوط على مصرف لبنان من جراء الوضع المالي المتأزم، والمواطن خائف من تدهور العملة". ويلفت إلى أنّ "الكتلة النقدية بالدولار من احتياطي المصرف لبنان تنخفض شيئاً فشيئاً، ويوجد عجز في ميزان المدفوعات وعجز في الموازنة، ما يعني تراجع الكتلة النقدية المتوافرة للبنك المركزي، للدفاع عن عملية تثبيت الليرة".
ويضيف بو سليمان أنّه "حين تكون الثقة بالاقتصاد مهزوزة، يتم سحب الودائع ووقف الاستثمارات التي لا تتعدى حالياً 2 إلى 3% من الناتج المحلي".
وفي حال تحرير سعر الصرف اليوم، فإنّ "قيمة الأجور ستنخفض، ما يعني حصول مشكلة اجتماعية على غرار ما شهدناه حين إسقاط حكومة عمر كرامي في العام 1992، وستتراجع القدرة الشرائية، وترتفع كلفة الاستيراد، وسنواجه أزمة فعلية مع ازدياد نسب التضخم"، بحسب بو سليمان.
وفي الوقت ذاته، يشير الخبير المالي إلى أنّه ستكون هناك "تداعيات إيجابية" من ناحية خفض حجم الدين العام المسجل بالليرة اللبنانية (حوالي 63% من الدين الإجمالي)، كما أنّ تثبيت سعر الصرف مكلف على الدولة وعلى مصرف لبنان، حيث يأكل من الاحتياطي بالعملات الأجنبية، ويدفع للقيام بهندسات مالية لتمويل حاجات الدولة وسداد استحقاقات عن وزارة المالية. "فعلياً ستتضرر المصارف، والمودعون ومصرف لبنان وصندوق الضمان وغيرها من المؤسسات، ولكن بنسب متفاوتة"، يقول بو سليمان.
غير أنّ بو سليمان يختم بالقول إنّ "مجلس الوزراء تعهد في بيانه الوزاري بالإبقاء على تثبيت سعر الصرف، وبالتالي أعتقد أنّ الموضوع سياسي أكثر مما هو نقدي ومالي".