يواجه العراق مأزقاً مالياً كبيراً بسبب عدم وفاء الدول المانحة بتعهداتها السابقة وسط تفاقم عمليات الفساد التي دفعت المانحين إلى عدم الالتزام بوعودهم من منح وقروض لبغداد بهدف إعادة إعمار المدن التي دمرتها الحروب خلال السنوات الأخيرة.
وما زال الخراب يخيم على مناطق غرب وشمال البلاد إثر المعارك الطاحنة التي قادتها القوات العراقية ضد تنظيم داعش منذ 2014 وحتى 2017، وانتهت بخسائر كارثية وإعلان أكثر من محافظة أنها منكوبة، جراء القصف العشوائي الذي طاول المدن، من كل أطراف المعركة.
وأكدت مصادر مطلعة في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن "بغداد لم تستقبل فلساً واحداً من الخارج لتعمير ما خربته الحرب"، مشيرة إلى أن الفساد المستشري بمؤسسات الدولة، وما له من علاقة بالاقتصاد والاستثمار المسيطر عليهما من بعض الأحزاب في البلاد، عرقل وصول أموال الدول إلى بغداد.
وقالت المصادر إن الدول المانحة استهدفت من وراء حجب أموالها سواء للحكومات السابقة أو الحالية، منع تسربها إلى "الهيئات الاقتصادية" لهذه الأحزاب التي تسيطر على الإدارة المالية للبلاد، وسط عمليات الفساد المتفاقمة.
وأضافت أن المانحين يعتقدون أن الأموال ستذهب في النهاية إلى جنود وجنرالات "الدولة العميقة"، وبالتالي فإن مؤتمرات واشنطن والكويت والأردن وتركيا، لإغاثة العراق، لم يجنِ منها العراقيون سوى الوعود.
وفي يوليو/ تموز 2016، تعهدت الولايات المتحدة الأميركية في مؤتمر عقد "لإغاثة العراق" خلال حربه على "داعش"، بجمع 2.1 مليار دولار، لكن العراق لم يتسلم أي مبالغ مما وعدت بها واشنطن.
وقبل سبعة أشهر (في فبراير/ شباط الماضي)، أعلن عدد من الدول العربية والأجنبية في مؤتمر الكويت، عن تعهدات بقيمة 30 مليار دولار أغلبها قروض سيادية، ولكن بسبب الشكوك الكثيرة لبلدان مانحة بأن الأموال ستُسرق بواسطة قنوات الفساد، انسحبت.
وتوقع العراق آنذاك أنه سيحصل على 88 مليار دولار من المانحين، وهو المبلغ المقدّر لمعالجة الخراب في مدن البلاد وتحديداً مدينة الموصل، معقل تنظيم داعش وعاصمة خلافته.
وفي هذا السياق، قالت النائب في البرلمان العراقي عن مدينة الموصل، انتصار الجبوري، لـ"العربي الجديد"، إن "الحكومات العراقية المتعاقبة لم تكن لديها الإرادة الكاملة لمحاربة شركات الفساد التي تعبث بأموال البلاد"، مشيرة إلى أن "الموصل مدينة منكوبة وهي الأولى بكل الأموال التي طرحتها مؤتمرات دعم العراق، ولكن حتى الآن لم يدخل الموصل فلس واحد".
وأضافت : "على الرغم من أن القروض التي سيستقبلها العراق، سترهقه اقتصادياً، إلا أنه لم يدخل للبلاد شئ". ونقلت الجبوري عن وزير دولة في اليابان، خلال زيارة سابقة لها، أنه قال "إن الأموال التي نخصصها للعراق لا نبعثها إلى هناك بسبب الفساد المستشري، والإهمال الحكومي في متابعة جادة لفتح ملفات المسؤولين الفاسدين ومواجهة الأحزاب التي تتلاعب بأموال العراقيين، فضلاً عن عدم تفعيل إجراءات مرنة للمستثمرين، وإنقاذ الأسواق".
بدورها، أشارت الخبيرة بالاقتصاد العراقي سلام سميسم، إلى أن "المشاركين في مؤتمر الكويت ومنتدى دافوس السابق، أكدوا أن أموالهم الممنوحة للعراق في خطر إذا وصلت للبلاد، حيث اشترطت اليابان والدنمارك والسويد وجود الأمم المتحدة كمشرفة على الأموال، وهذا يعني أن الأطراف الدولية لا تثق بالعراق بسبب المفسدين داخل البلد".
وأوضحت سميسم لـ"العربي الجديد"، أن "العراق ضرب معدلات قياسية بالفساد، والتلاعب بالأموال المخصصة لملف الاستثمار، الذي يمثل الملف الأكثر تعقيداً، لأنه سُلّم بيد إدارة بيروقراطية حكومية، وهيئات متحكمة ومتنفذة ومرتبطة بجهات سياسية، وبالتالي لا يمكن للعراق أن يفتح الأبواب للاستثمار ما لم تتغير هذه الصيغة".
وحسب مراقبين، كانت السنة الأخيرة من حكومة الرئيس العراقي السابق حيدر العبادي مليئة بالتحديات في هذا الملف، فهو بالكاد أخرج هو وقواته البلاد من خطر إرهابي شرس وصلت مخالبه إلى حدود العاصمة بغداد، وفي الوقت نفسه، لم يملك الصلاحيات والقوة الكافية لمحاسبة المتورطين في قضايا فساد قامت بها "الدولة العميقة" التي يقودها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، وهي السبب الرئيسي في عدم ثقة المجتمع الدولي بالعراق وعدم الوفاء بوعود المنح والقروض التي تم الإعلان عنها في وقت سابق.
وبقي الحال كما هو حتى جاء الرئيس الجديد عادل عبد المهدي، الذي يصفه المراقبون بـ"ضعيف الشخصية"، نظراً لاستقالاته الكثيرة من مناصب متنوعة وعدم قدرته على مواجهة الفساد المتفاقم، حسب المراقبين.
وفي هذا الإطار، قال مصدر سياسي مقرب من رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، لـ"العربي الجديد" إن "الدولة العميقة التي يقودها نوري المالكي وإداراته للشؤون الاقتصادية للميليشيات المرتبطة بإيران، حالت دون وصول الأموال والتعهدات العربية والأجنبية للبلاد، فالمالكي يسيطر على تشكيلات عنكبوتية ترتبط بجهات سياسية داخلية وخارجية، وله نفوذ مدني وعسكري، ويسيطر على كثير من المؤسسات الاقتصادية والخدمية حتى الآن".
وأوضح المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، أن "الدول الغربية والعربية قدمت في سنوات سابقة كثيرا من المنح والمساعدات بعناوين مختلفة، لكن المواطن العراقي لم ير عائداً عليه من هذه الأموال، ولا يعرف أين ذهبت تلك الأموال، ولهذا فإن الدول بدأت تحجم عن إرسال الأموال التي تعهدت بها، لأنها تعرف جيداً أنها ستذهب لحسابات شخصية لمتنفذين من مدراء عامين ووكلاء.
في المقابل، قال عضو تحالف "الفتح" رزاق الحيدري، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن "المنح التي خصصتها الدول المانحة للعراق ليست مجدية وغير ومفيدة، فالأفضل أن يعمل العراق على تكوين شراكات حقيقية مع حكومات أخرى بعيداً عن المؤتمرات".
وأوضح الحيدري أن الصين طرحت على العراق مقترحاً بإفساح المجال لشركات صينية تتولي ملف إعمار العديد من المناطق على أن يتم التعامل بين حكومتي البلدين بطريقة مباشرة دون وسيط، وبهذه الطريقة نتجنب القروض المرهقة للبلاد".
وتابع أن "المنح تمثل إهانة للحكومة العراقية والمواطنين، وكان على المسؤولين ألا يقبلوا بهذه الإعانات"، مضيفا أن "ما طُرح في مؤتمرات الدول المانحة مجرد أرقام وهمية، ولم نلحظ أي فعل حقيقي على أرض الواقع".