من كان يصدق؟

10 ابريل 2020
متعامل غاضب في وول ستريت بسبب تعليق التداول (Getty)
+ الخط -


من كان يصدق أن العالم يخسر تريليونات الدولارات في شهر واحد، وهو ما يزيد كثيراً عن موازنات وإيرادات ونفقات دول كبرى لعدة سنوات، بل ويزيد عن المبالغ التي ادخرها القطاع المصرفي وشركات التأمين والمؤسسات المالية حول العالم من عملائها، أو كسبتها صناديق وبنوك الاستثمار العالمية والمستثمرون الدوليون في سنوات طويلة. 

ومن كان يصدق أن أسعار النفط تتراجع بنسبة 70% في شهر واحد هو مارس/آذار الماضي رغم زيادة المخاطر العالمية، الاقتصادية والاجتماعية، وأن الحكومات والبنوك المركزية الكبرى تسارع للتخلص من الذهب للحصول على سيولة نقدية توجه لعلاج الكوارث الصحية والمالية الناتجة عن تفشي فيروس صغير حصد أرواح ما يقرب من 90 ألف شخص.

من كان يصدق أن الاقتصاد الأميركي، أكبر اقتصاد في العالم، أصابه الركود وتكبد الخسائر الفادحة التي تقدر بتريليونات الدولارات بسبب فيروس كورونا المستجد (ﻛﻮﻓﻴﺪ-19)، وأن استمرار الفيروس لعدة أشهر قد يجهض أحلام دونالد ترامب في الفوز بفترة رئاسية ثانية.

من كان يصدق أن الفيروس يأتي خلال فترة وجيزة على كل الإنجازات الاقتصادية التي حققها ترامب في ولايته الأولى، خاصة المتعلقة بحدوث قفزات في أسعار الأسهم الأميركية ومؤشرات "وول ستريت"، وتوفير فرص عمل، حيث انضم إلى طابور العاطلين عشرة ملايين أميركي، إضافة إلى 6.6 ملايين شخص تقدموا بطلبات إلى الحكومة للحصول على إعانة بطالة. 
من كان يصدق أن سؤالا بات يتردد على لسان الملايين حول العالم وهو: هل سينهار الاقتصاد الأميركي عقب دخوله في مرحلة ركود طويلة؟ خاصة مع تفاقم مشكلة الدين العام الذي بات يزيد على 23 تريليون دولار، ليشكل بذلك 107% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وإذا انهار الاقتصاد الأكبر والأقوى في العالم، فهل سينهار معه الدولار الذي تحتمي به الدول ومستثمرو العالم وكل البنوك المركزية بما فيها بنك العدو اللدود المركزي الصيني الذي يودع احتياطياته الأجنبية داخل البنوك الأميركية، وإذا انهارت العملة الأميركية، فما هي العملة الآمنة الآن، خاصة أن العملات الأخرى تواجه مشاكل لا تقل خطورة عن مشاكل الدولار بما فيها عملة اليورو.

من كان يصدق أن هناك قوى أخرى باتت تهدد الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتوقف نموه المتسارع منذ سنوات والذي رشحها لأن تكون القوة الاقتصادية في العالم بحلول عام 2030، وأن هذه القوة الفيروسية باتت أقوى وأكبر من تهديدات ترامب وحروبه التجارية ورسومه الجمركية المرتفعة.

من كان يصدق أن فيروساً غير مرئي انطلق بسرعة من عمق الأراضي الصينية إلى كل دول وأسواق وبورصات العالم، وأوقف صادرات الصين التي كانت تجوب كل أسواق العالم، بل يهدد هذا الفيروس التجارة الخارجية للصين التي تجاوزت قيمتها نحو 4.6 تريليونات دولار في عام 2019، كما يغلق المصانع والمنشآت الإنتاجية ويعطل حركة السفر والطيران، بل ويوقف حركة التجارة الدولية.

من كان يصدق أن الاتحاد الأوربي بات مهدداً ومعه تكتل منطقة اليورو، وأن إيطاليا باتت بؤرة رئيسية لوباء فيروس صغير، وأن اقتصادها ربما في طريقه إلى الانهيار، وأن الفيروس قد يسقط الدولة الأوروبية وغيرها من دول منطقة اليورو في أعمق ركود اقتصادي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945.
من كان يصدق أن إيطاليا قد تكون المسمار الذي يهز عرش عملة اليورو ويفككها ويحيلها على التقاعد، خاصة أنها تحتاج وحدها إلى دعم مالي يقدر بنحو 1.2 تريليون دولار للحفاظ على توازناتها المالية، وأن كلفة علاج عجز ميزانيتها يتجاوز 200 مليار دولار، كما تحتاج إلى ما لا يقل عن تريليون دولار لوقف تهاوي القطاع المصرفي الإيطالي.

من كان يصدق أن البنوك المركزية باتت تسابق الحكومات في إنقاذ الاقتصاد العالمي عبر خطط تحفيز ضخمة لم يعرفها العالم من قبل، وأن الـ 2.2 تريليون دولار التي قررت الحكومة الأميركية والكونغرس ضخها في الأسواق وشرايين الاقتصاد قد لا تستطيع وقف خسائر الفيروس الصغير لأكثر من 3 أشهر، وأن الأسواق قد تبتلع 2.3 تريليون دولار أخرى قرر مجلس الاحتياط الفيدرالي " البنك المركزي الأميريكي" أمس ضخها لوقف تهاوي الاقتصاد والبنوك والشركات .

من كان يصدق أن الشركات الفرنسية المتعثرة بسبب تفشي الفيروس قد تبتلع 300 مليار يورو قررت حكومة ماكرون ضخها في شرايينها، وأن ألمانيا قد تحتاج 700 مليار يورو أخرى لوقف خسائر اقتصادها وإغراء الشركات لعدم تسريح العمالة، وأن خسائر إسبانيا أكبر من أن يتم حصرها في الوقت الحالي.

حتى النرويج صاحبة أكبر صندوق سيادي عالمي بثروة تتجاوز تريليون دولار أصاب اقتصادها وعملتها ما أصاب دول جنوب أوروبا، إذ تفاقمت البطالة وأغلقت الشركات أبوابها وتدهورت عملتها.
من كان يصدق أن تعثر الدول في سداد ديونها الخارجية سيزداد في المرحلة المقبلة بشكل يهدد المراكز المالية لصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية، وأن هذه المؤسسات التي كانت تذل شعوب الدول النامية المقترضة وتحابي الأثرياء مقابل منح مئات الملايين من الدولارات أو حتى بضعة مليارات، باتت الآن مجبرة على منح قروض بمئات المليارات لهذه الدول من دون تشدد في شروط الإقراض، أو تطبيق برامج اقتصادية قاسية مفروضة على الشعوب، برامج تصاحبها زيادة كبيرة في أسعار السلع الرئيسية، وتعويم للعملات المحلية، وإذلال للقطاع الأكبر من المواطنين، ودهس للطبقة الوسطى.

فتوقف المؤسسات المالية عن ضخ سيولة نقدية وقروض ومنح ومساعدات في شرايين الدول المتعثرة يعني إفلاس هذه الدول وتوقفها عن سداد ديونها الخارجية، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إفلاس الجهات المقرضة.

العالم يتغير وبسرعة كبيرة بسبب فيروس صغير سيهز، بكل تأكيد، أركان الاقتصاد الدولي ومؤسساته المالية، وسيغير من قواعده ونظمه المستقرة، وقد يؤدي إلى دخول العالم في حالة ركود عميق، وربما شلل اقتصادي شامل تتبعه انهيارات تصبح أزمة الكساد الكبير 1929 بجوارها مجرد أزمة صغيرة جداً جداً جداً. 

الصورة قاتمة والتوقعات متشائمة من الجميع، ما لم يتدخل القدر، ويهدي العالم الحائر المضطرب علاجاً سريعاً وناجعاً لأخطر فيروس عرفه التاريخ الحديث، هنا يبدأ العالم حصر خسائره ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل غرق السفينة.
المساهمون