بات من المسلّم به في لبنان أن أي طريق للخروج من المأزق المالي الذي تعيشه البلاد سيمر حتماً بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، خصوصاً بالنظر إلى الترابط الوثيق بين موجودات هذا القطاع من جهة، ومختلف أدوات الدين السيادي من جهة أخرى. وبذلك، أصبح السؤال الأساسي اليوم يتعلّق تحديداً بشكل إعادة الهيكلة هذه، والسيناريوهات المختلفة التي يفضي كلّ منها إلى توزيع مختلف لخسائر الانهيار الحاصل.
حتميّة إعادة الهيكلة
بحسب أرقام مصرف لبنان لغاية نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، بلغ إجمالي موجودات القطاع المصرفي اللبناني نحو 213.8 مليار دولار. ومن أصل هذا المبلغ، وظّفت المصارف 117.64 مليار دولار لدى المصرف المركزي على شكل ودائع وشهادات إيداع بجميع العملات، فيما وظّفت 12.7 مليار دولار في سندات اليوروبوند التي تصدرها الدولة اللبنانيّة بالعملات الأجنبيّة، و14.3 مليار دولار في سندات الخزينة الصادرة بالليرة اللبنانيّة.
مع العلم أن الكثير من توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي لم تكن سوى إحدى الطرق غير المباشرة لتمويل الدين العام، حيث عمد المصرف المركزي إلى استعمال هذه السيولة للاكتتاب في سندات الخزينة التي كانت تصدرها الدولة اللبنانيّة.
تعكس هذه الأرقام طبيعة المشكلة التي يعاني منها القطاع المصرفي اليوم، فالمصارف اللبنانيّة وظّفت نحو 68% من موجوداتها في أدوات الدين السيادي، سواء بشكل مباشر عبر الاكتتاب بسندات الخزينة أو بشكل غير مباشر من خلال التوظيف في مصرف لبنان.
واليوم تشكّل هذه التوظيفات المكمن الأساسي لمشكلة السيولة التي وقعت فيها المصارف، خصوصاً بعد إعلان الدولة اللبنانيّة تعليقها لسداد السندات، وتوجهها نحو التفاوض على ديونها، وفي ظل شح السيولة بالعملات الصعبة التي تدفع بالبنك المركزي إلى التشدد في المحافظة على المتبقي من احتياطي العملات الصعبة لديه.
في الواقع، ثمّة مكامن أخرى لمشكلة السيولة تتخطّى مسألة توقّف الدولة عن سداد سنداتها. ففي ما يتعلّق بتوظيفات العملات الأجنبيّة تحديداً، يدين المصرف المركزي للمصارف اللبنانيّة بنحو 70 مليار دولار بالعملة الصعبة، في حين لم يتبقَّ من احتياطي العملات الأجنبيّة التي بحوزته سوى 28.96 مليار دولار، بحسب أرقام مصرف لبنان لغاية نهاية شهر يناير الماضي. ونتج هذا الفارق تحديداً من استعمال المصرف المركزي جزءاً كبيراً من هذه السيولة لتلبية الطلب على الدولار في الأسواق وتثبيت سعر صرف العملة المحليّة.
كل هذه الأرقام تدل على حتميّة الوصول إلى مرحلة إعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني، خصوصاً مع اتجاه الدولة اللبنانيّة إلى التفاوض على إعادة هيكلة دينها العام. وعملياً، تشكّل أزمة التوظيف في الديون السياديّة الفجوة الأكبر في الموجودات المصرفيّة، والتي سيكون على لبنان التعاطي معها في الفترة القادمة. أمّا الإشكاليّة الأبرز هنا، فهو السؤال عن طبيعة الحلول، وطبيعة الفئات التي ستتحمّل وزر أي خسارة ناتجة عن هذه المعالجات.
سيناريوهات وبدائل
لعلّ وزير الماليّة غازي وزني كان أبرز الذين بادروا إلى طرح طرق واضحة للشروع في عمليّة إعادة الهيكلة الشاملة للدين العام والقطاع المصرفي معاً، خلال مقابلته الأخيرة مع صحيفة Financial Times.
تركّزت إحدى طروحات وزني على إنشاء صندوق يمكّن المودعين من تحويل ودائعهم إلى حصص في أصول الدولة، وبذلك تتخلّص المصارف من التزاماتها للمودعين من ناحية المطلوبات، ومن ديون الدولة المتعثّرة من ناحية الموجودات، فيما تتحوّل حقوق المودع إلى حصص في مؤسسات الدولة التي يتم خصخصتها.
يمكن لهذا الخيار أن يساهم في ترشيق ميزانيّات المصارف والدين العام في وقت واحد، مقابل تحميل كلفة التصحيح بأسرها إلى الدولة من خلال التنازل عن أصولها. لكنّ هذا الخيار اصطدم بانتقادات من عدّة نواحي، فهو يسمح بتخلّص المصارف من كلفة التصحيح كلّياً،
رغم أنّها كانت شريكاً طوال العقود الماضية في صياغة النموذج المالي القائم مع علمها بمخاطر ارتباط هذه النسبة من موجوداتها بالدين العام. كما استفادت طوال سنوات من الأرباح السخيّة التي درّها هذا النموذج على شكل فوائد السندات المرتفعة، والأرباح السخيّة من توظيفاتها لدى المصرف المركزي. أمّا الخصخصة في ظل هذه الظروف، فتعني بيع أصول الدول بأثمان بخسة، خصوصاً بالنظر إلى التدهور الذي يشهده الاقتصاد المحلّي.
في المقابل، ثمّة طروحات مختلفة يتم تداولها، يتركّز بعضها على طرح عمليّة اقتصاص منظّمة وتصاعديّة من الودائع من جهة المطلوبات في ميزانيات المصارف، بحسب قيمة الودائع واستفادتها من فوائد المرحلة الماضية. كما يقضي هذا الطرح بزيادة قيمة الرساميل من جهة المطلوبات أيضاً، بما يعيد للميزانيات المصرفيّة توازنها وملاءتها، بالتزامن مع عمليات دمج للمصارف التي لا تتمكّن من تحقيق هذا الشرط للاستمرار.
وبعد إعادة الرسملة على هذا النحو، يمكن عندها الشروع في عملية تفاوض لإعادة هيكلة الديون السياديّة بما يعيدها إلى مستوى منطقي يمكن للدولة أن تتعامل معه. ويُعد هذا السيناريو من السيناريوهات التي تعيد توزيع كلفة إعادة الهيكلة على جميع الأطراف من ناحية المودعين والمصارف والدولة.
بين الخيارين، ثمّة خيارات أخرى جرى تداولها مثل تمكين المودعين بالعملات الأجنبيّة من سحب الودائع بالليرة وفق سعر صرف السوق، في مقابل عمليّة إعادة هيكلة الديون السياديّة، وهو ما يعني رمي العبء على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، بينما طرح البعض الآخر تجميد الودائع لفترة طويلة بفوائد تقارب الصفر، بالتزامن مع جدولة الديون السياديّة لفترات أطول.
لكنّ الأهم هنا، هو الانطلاق من ضرورة الاعتراف بحجم المشكلة وبوجود كلفة حتميّة للتصحيح، وعدم المراهنة على شعارات عامّة وغير واقعيّة من قبيل "عدم المس بالودائع إطلاقاً"، إذ أن ذلك لن يساهم إلا بتأخير الحلول المنطقيّة وزيادة الكلفة على المدى الأطول.