فعلها لبنان دون مواربة أو تجميل للصورة أو تحايل على أمر واقع، حيث أعلن رئيس الوزراء اللبناني، حسان دياب، يوم 7 مارس/آذار الجاري، وبشكل مباشر، التوقف عن سداد الديون الخارجية المستحقة لحملة السندات، بدءاً من يوم 9 مارس الجاري، وهو ما وضع لبنان تحت بند الدول المتعثرة وربما الدول المفلسة في وقت لاحق، خاصة مع خفض مؤسسة ستاندرد آند بورز، تصنيف الديون السيادية اللبنانية بالعملة الأجنبية إلى "تعثر انتقائى عن السداد".
لبنان، ومن خلال إعلانه الصادم التعثر عن سداد الديون الخارجية، أرسل تسع رسائل صارخة إلى الدول المدينة والمفرطة في الاقتراض، أو تلك التي تعتمد على القروض الخارجية في تمويل مشروعات ريعية وعقارية، وما أكثر هذه الدول في المنطقة العربية التي تقترض مليارات الدولارات سنوياً وبشكل يفوق قدرتها على السداد.
الرسالة الأولى:
أي دولة تتوسع في الاقتراض الخارجي أو المحلي دون أن يكون لديها خطة سداد واضحة، أو مصدر محدد لسداد الأقساط من أصل الدين والأقساط المستحقة، أو مشروعات تدرّ عائداً بالنقد الأجنبي، سيكون مصيرها المحتوم هو التعثر والإفلاس مثلما حدث مع لبنان، حيث سيأتي اليوم الذي لن يكون في مقدور الدولة المدينة سداد أصل الدين أو حتى الفوائد المستحقة عليه، خاصة إذا ما فاق حجم الدين وأعبائه إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للدولة، أو أن يصبح الدين العام عبئاً كبيراً على إيرادات الدولة التي يخصص معظمها في فترة ما لسداد الديون المستحقة، وليس لإقامة مستشفيات ومدارس وتحسين قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية من شبكات مياه وصرف وكهرباء وطرق، أو أن توجه القروض الدولارية لمشروعات لا عائد اقتصادياً وخدمياً منها.
الرسالة الثانية:
أن الدول التي تعتمد على الاقتراض الخارجي في سدّ عجز الموازنة العامة، وسداد رواتب موظفي الجهاز الإداري، وتمويل بنود الإنفاق العام للدولة، وبناء الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي دون أن يكون لديها قطاعات اقتصادية وإنتاجية، خاصة أنشطة الزراعة والصناعة والصادرات، سيكون مصيرها مثل لبنان، حيث سيأتي اليوم الذي يمتنع فيه الدائنون عن ضخّ مزيد من القروض، في ظل اقتصاد متهاوٍ ضعيف يعتمد على الأنشطة الريعية، لا الأنشطة الإنتاجية، اقتصاد لا يولد إيرادات بالنقد الأجنبي تُسَدّ من خلالها أعباء الديون.
الرسالة الثالثة:
أن الفساد إذا ما دبّ في بلد ما، فإن التعثر المالي سيكون مصير اقتصاد هذه الدولة وماليتها، وعندما يفسد الرأس ينتشر المرض في كل أنحاء الجسد كالسرطان.
فالفساد، كما قال رئيس الوزراء حسان دياب، بدأ في لبنان خجولاً، ثم تحول إلى فساد جريء، ثم فساد وقح، وأخيراً أصبح فساداً فاجراً، وبالتالي فإن الفساد خطر اقتصادي وسياسي قبل أن يكون مرضاً اجتماعياً. فالفساد يأكل ثمار أي نمو اقتصادي، ويلتهم أي إيرادات للدولة أو أي فوائض مالية.
وبالتالي تصبح الرشوة والتهرب الضريبي والجمركي وغسل الأموال القذرة ونهب المال العام والسمسرة في الديون الخارجية وتجارة الآثار والمخدرات والدعارة وغيرها من التعاملات المالية غير المشروعة أبرز سمات الدول المدينة، وتصبّ أموال دافعي الضرائب وعوائد أصحاب الشركات في جيب كبار المسؤولين وليس في الخزانة العامة، وبعدها تصب في جيب الدائنين الخارجيين.
وبدلاً من أن توجه ثروات البلاد وموارده نحو تمويل المشروعات الخدمية والإنتاجية التي تفيد المواطن وتسهل وضعه المعيشي وتوفر احتياجاته من السلع الرئيسية كالخبز والوقود والدواء، فإنها تصبّ في حسابات كبار المسؤولين المفتوحة لدى البنوك الغربية، وبدلاً من أن تصبح خزانة الدولة هي الثرية، تصبح خاوية ومنهوبة، وتصبح الموازنة العامة في حال عجز مستمر، شأن كل الدول التي تعتمد على الاقتراض في تسيير دولاب الدولة.
الرسالة الرابعة:
أن فقدان الثقة في النظام الحاكم، يؤدي إلى امتداد القلق إلى قلوب المودعين والقطاعات الحساسة مثل البنوك وسوق الصرف الأجنبي والبورصة، ويؤدي إلى فقدان الثقة في الاقتصاد كله، وفي حال تنامي هذا القلق، قل على الاقتصاد والدولة السلام. فقلق المودعين واضطراب سوق الصرف سيدفعان أصحاب المدخرات نحو أبواب البنوك لسحب أموالهم منها وتهريبها إلى الخارج أو وضعها تحت البلاطة، وهنا يتدهور القطاع المصرفي وتتراجع الثقة به.
ويمتد فقدان الثقة إلى العملة المحلية، وبالتالي يسارع المدخرون نحو حيازة العملات الأجنبية والذهب، وهو ما يضغط أكثر على العملة المحلية، والنتيجة النهائية تعويم العملة وانهيارها، وهو ما يفتح الباب أمام أمراض كثيرة، منها تآكل المدخرات الوطنية وتراجع معدلات الادخار وزيادة الأسعار.
الرسالة الخامسة:
لا يمكن لدولةً ما أن تعتمد إلى ما لا نهاية على الهبات والمنح والمساعدات القادمة من الخارج، لأن هذه الأموال المجانية لها تكلفتها السياسية والاقتصادية الباهظة، وأصحابها لا يمنحونها لله ولأجل عيون الدولة المتلقية لهذه الأموال، وأن للمال السياسي ثمناً كبيراً تدفعه هذه الدول، ولنا في تجارب السعودية وبعض دول الخليج وفرنسا مع لبنان عبرة.
الرسالة السادسة:
لا يمكن الحكومةَ خداع المواطن على طول الخط، فالحكومات اللبنانية المتعاقبة خدعت المواطن بالحديث عن الرفاهية ومعدل النمو القوي، وسعر الصرف المستقر لليرة مقابل الدولار، وتحويلات ضخمة من قبل ملايين المغتربين، واستثمارات كبيرة للمستثمرين الخليجيين خاصة السعوديين، وقطاع مصرفي قوي، وعوائد ضخمة من قطاع السياحة، إلا أن الواقع كان يقول إننا أمام اقتصاد لبناني ريعي يعتمد أكثر على الخدمات والمعونات الخارجية سواء القادمة من الرياض أو باريس، ولولا تحويلات المغتربين لانهار الاحتياطي الأجنبي منذ سنوات، وإننا أمام استقرار وهمي لليرة، وقطاع مصرفي ينخر به الفساد وعمليات تهريب الأموال.
الرسالة السابعة:
عندما يخرج المواطن مطالباً بحقوقه في ثروات بلاده، هنا يظهر الوجه الحقيقي للحكومة والاقتصاد، وبدلاً من أن تضع الحكومة يدها على أموال النخب الفاسدة وتمنع تهريب الأموال إلى الخارج، تسارع بوضع يدها في جيب المواطن متذرعة بالفقر ونقص الموارد المالية وضرورة فرض ضرائب ورسوم لتوفير المال المطلوب لاستيراد الغذاء والدواء.
الرسالة الثامنة:
عندما تعيش دولة ما لسنوات في حالة حرب وقلاقل سياسية وأمنية، فإن اقتصادها سينهار لا محالة في يوم ما، وإن تأجل لسنوات، إلا إذا وضعت الحرب أوزارها وبدأ الساسة بوضع حلول سريعة للأزمات الاقتصادية، هنا قد يؤجَّل الانهيار، وربما لن يأتي أصلا، وبالتالي فإن الحالة التي يمرّ بها لبنان من توقف عن سداد الديون الخارجية مرشحة للتكرار في بلاد عربية عدة، في مقدمتها ليبيا وسورية واليمن، وربما العراق.
الرسالة التاسعة والأخيرة:
هناك كلفة عالية تتحملها الدولة في حال تأجيل الحكومات الإصلاحات الاقتصادية والمالية والحد من الفساد، وأن تلكؤ الحكومات في إصلاح الوضع المالي للدولة يمكن أن يقود الدولة بالكامل إلى التعثر المالي وبعدها الاقتصادي، وأن الحكومة يجب أن تبدأ اليوم وليس غداً خطوات وقف الفساد والتوزيع العادل للثروة وإدارة موارد الدولة بشكل كفء والحد من الاقتراض الخارجي وترشيد الإنفاق العام.