تتواصل احتجاجات حركة "السترات الصفراء" في فرنسا، في وقت يرتفع فيه سقف مطالب المحتجين على الأوضاع الاقتصادية المتردية خاصة المتعلقة بزيادة الأسعار وتدني الأجور.
وتزيد حدة الاحتجاجات على الرغم من اعتراف الحكومة الفرنسية بعدم تفهم ثورة الغضب الشعبي، وإلغاء ضريبة الـ7 يوروهات على البنزين العادي والـ3 يوروهات على البنزين الممتاز، التي كانت قد أعلنت أنها ستبدأ تطبيقها في يناير/ كانون الثاني المقبل.
وفي محاولتها لاسكات الغضب الشعبي جمدت الحكومة الفرنسية كذلك رسوم خدمات الغاز والكهرباء والرسوم على السيارات التي كانت ستضيف أعباء مالية على أصحاب السيارات القديمة، كما عوم رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليبي فكرة منح حوافز مالية لأصحاب الدخول الدنيا. وذلك وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية.
لكن كل هذه الخطوات لم تفلح في إقناع المحتجين في الجلوس مع الحكومة لمناقشة طلباتهم، أو حتى توقف المظاهرات التي استدعت تدخل عربات الجيش المدرعة مساء أمس السبت، كما أنه وبعد ثلاثة أسابيع تتوسع الاحتجاجات، ويرتفع عدد داعميها بنسبة تراوح بين 70% و80% من مواطني فرنسا البالغ عددهم 65.5 مليون نسمة، حسب آخر مسح نقلته وكالة بلومبيرغ، فيما هبطت شعبية ماكرون إلى نسبة 23%.
لكن لماذا لم تهدأ المظاهرات، وما هي الأخطاء التي ارتكبها الرئيس إيمانويل ماكرون لتفجير كل هذا الغضب؟ تمثل هذه الاحتجاجات أكبر أزمة يواجهها ماكرون منذ توليه حكم فرنسا في 14 مايو/ آيار الماضي حسب مراقبين. ومنذ توليه منصبه سعى ماكرون إلى تنفيذ إجراءات تفضي إلى زيادة تنافسية الاقتصاد الفرنسي، وتعزيز قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية، وذلك عبر مجموعة من الإصلاحات الخاصة التي شملت قانون العمل والضرائب على الثروة والشركات، وهي محاولة سبقه إليها الرئيس السابق فرانسوا هولاند.
لكن نجاح هذه الخطة حتى إذا قدر لها النجاح، وحسب محللين، ربما يأخذ سنوات ويدعو إلى ربط الأحزمة على البطون لسنوات إن لم يكن لأكثر من عقد، وذلك ببساطة لأن الاقتصاد الفرنسي يعاني من مجموعة مشاكل متراكمة لا تمكن معالجتها فقط بتمرير قوانين.
ويقدر حجم الاقتصاد الفرنسي بمقياس "مكافئ القوة الشرائية" بحوالي 2.794 ترليون دولار، وهو بهذا الرقم يحتل المرتبة السادسة عالمياً في الحجم. وفقاً لأرقام المفوضية الأوروبية.
وتشير الأرقام الرسمية الأوروبية إلى أن معدل نمو الاقتصاد الفرنسي يبلغ حالياً 1.7% ويتجه للانخفاض إلى 1.6% خلال العام المقبل 2019، والبطالة 9%، والتضخم 2.1%. وذلك حسب إحصائيات المفوضية الأوروبية "يورو ستات"، وذلك مقابل معدل الإنفاق الضخم على دولة الرفاه الذي يفوق 50% من حجم الاقتصاد الفرنسي.
وهذه الأرقام تؤكد أن أزمة الاقتصاد الفرنسي متجذرة وتراكمت لعقود طويلة، وذلك يعود إلى تزايد الإنفاق وضعف النمو الاقتصادي منذ أزمة المال العالمية في العام 2008.
ولذا جاءت احتجاجات حركة "السترات الصفراء" التي أشعلت باريس وكبدت فرنسا حتى الآن خسائر مالية باهظة خاصة في القطاع السياحي، بهذا العنف، ولا تبدو أنها حركة احتجاجية عابرة تنتهي بالاستجابة لمطالب محددة، وإنما يبدو أنها أزمة مستوطنة تتفاعل تبعاص لتفاعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتجذرة في فرنسا وتراكمت تداعياتها لعقود دون حل.
ويقدر الاقتصادي الفرنسي إيمانويل جيسون بمركز دراسات المال والأعمال في باريس في تعليقات نقلتها مجلة "بوليتيكو"، أن الإنفاق العام أو الإنفاق على خدمات دولة الرفاه بلغ معدلاً قياسياً في البلاد، مقارنة بالإنفاق في باقي دول منطقة اليورو.
وتقدر مجلة بوليتيكو الإنفاق بحوالى 56% من الناتج المحلي الفرنسي مقارنة بمتوسط لا يتخطى خانه العشرينيات في أكثر الدول الأوروبية. وهذا المعدل المرتفع الذي لم يصاحبة نمو يذكر في الاقتصاد، أرهق كاهل الطبقة الوسطى وفئات العمال بالضرائب.
وتشير الدراسة التي نشرتها المفوضية الأوروبية أخيراً، إلى أن دول الاتحاد الأوروبي تنفق في المتوسط حوالى 19.5% من إجمالي الناتج الإجمالي على تمويل نفقات دولة الرفاه، وترتفع النسبة إلى 20.5% في دول منطقة اليورو، وهذا المعدل يعني أن دول الاتحاد الأوروبي تنفق سنوياً قرابة 3.4 ترليونات دولار على نفقات دولة الرفاه. ولكن حجم الانفاق الفرنسي يعد الأكبر.
ويعود ذلك إلى أنه ومنذ الأزمة المالية العالمية لم تخرج فرنسا حقيقة من الركود الاقتصادي إلا في العام 2016، كما لم يرتفع الدخل الفردي إلى مستوياته قبل الأزمة إلا في نفس العام، في وقت ارتفع فيه معدل التضخم وزادت الضرائب والرسوم على اصحاب الدخل المحدود.
ويقل معدل الدخل الفرنسي عن المتوسط في منطقة اليورو بنسبة 2.5%.
كما يشير الاقتصادي جيسون في تعليقاته لصحيفة بوليتيكو، إلى أن محاولة الإصلاح الاقتصادي التي نفذها ماكرون لم تؤت ثمارها بالنسبة لرجل الشارع العادي حيث إن دخله لم يرتفع وسط ارتفاع معدل التضخم وزيادة الضرائب، وبالتالي يشعر المواطن العادي وأفراد الطبقة الوسطى بالغبن من السياسات الاقتصادية التي تنفذها الحكومة الحالية.
وفي مقابل معدل النمو المنخفض في دخول الفرنسيين وارتفاع كلف المعيشة، يقول جيسون إن ما يقلق أكثر أن فرنسا تخسر أسواق صادراتها لصالح الصين ودول الاقتصادات الناشئة، كما تتآكل نسبة صادراتها من إجمالي صادرات منطقة اليورو، حيث انخفضت نسبة الصادرات الفرنسية إلى 13% من صادرات منطقة اليورو مقارنة بحصة 17% في العام 2000. وهذا العامل يرفع من مستوى البطالة في البلاد.
لكن الاقتصادي جيسون يرى أن أزمة الاقتصاد الفرنسي لا تقف عند هذه الحدود، حيث تمتد إلى ارتفاع حجم دين القطاع الخاص.
ومنذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، ارتفع حجم الدين العام من نسبة 141% من الناتج المحلي إلى 168% في العام 2017. وذلك وفقاً لإحصائيات " بنك أوف أميركا ـ ميريل لينش". وهذا المعدل من الدين الخاص يعد الأعلى بمنطقة اليورو ولا تتفوق عليه إلا بلجيكا والبرتغال.
ويمكن تلخيص أزمة الاقتصاد الفرنسي التي فجرت الاحتجاجات الضخمة في فرنسا في نقاط عدة أبرزها اتساع فجوة الدخول في فرنسا، بين الأثرياء والفقراء، حيث، يملك 1% من الأثرياء حصة 20% من ثروة فرنسا. كما يتقاضى نصف العمال الفرنسيين أجوراً أقل من 1700 يورو " أي حوالى 1930 دولاراً"، في المتوسط.
وهذا المعدل لا يكفي لتغطية نفقة العائلات وسط ارتفاع معدل التضخم، وبالتالي كلفة المعيشة وتسديد فواتير الإيجار وخدمات الكهرباء والغاز وضرائب البلدية، ولذا يطالب المحتجون برفع الحد الأدنى للأجور ورفع معدل المعاشات حتى تتوازى مع معدلات التضخم وكلف المعيشة.
وما يزيد من غضب المواطن العادي في فرنسا أن برنامج الإصلاح الضريبي الذي نفذه ماكرون وخفض بموجبه الضرائب على الأثرياء، ثبت من حجم الضريبة على الأثرياء حسب نص القانون، فيما لم يثبتها على الموظفين.
وهذه التخفيضات وحسب صحيفة "نيويورك تايمز" قلصت عوائد الدولة الفرنسية، بحوالى 3.2 مليارات يورو هذا العام.
يضاف إلى ذلك ارتفاع معدل البطالة المقدرة خلال الربع الثالث من العام الجاري بحوالى 9.1% والتي تتواكب مع معدل النمو الاقتصادي الضعيف المقدر بحوالى 1.6%. كما تراجعت كذلك القدرة الشرائية للمواطن العادي بسبب ارتفاع معدل التضخم وثبات المرتبات على حالها لفترة طويلة.