عصبية الأسواق وتراجع منحنى العائد المقلوب

22 اغسطس 2019
زيادة المخاطر تؤثر سلباً على أسواق المال (GETTY)
+ الخط -

نشرت محطة CNN على شاشاتها وموقعها الإلكتروني يوم الخامس عشر من شهر أغسطس/ آب الجاري، تقريراً حذرت فيه من أن الاقتصاد العالمي قد يكون مُقبلاً على تراجع (recession)، وذلك لأن منحنى العائد قد أصبح مقلوباً، ما يعكس خوف المستثمرين وميلهم الشديد إلى تحقيق عوائد أعلى في المدى القصير على استثماراتهم في الأوراق المالية والسندات.

وإذا اقترب العائد على الأوراق قصيرة الأجل من العائد على الأوراق طويلة الأجل أو زاد عنه، فإن هذا يخلق ما يسمى "Inverted Yield Curve"، أو منحنى العائد المقلوب.

وقد برز هذا المنحنى باستمرار قبل دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة التراجع في آخر أربع مرات حصل فيها هذا التراجع، ومنها ما جرى عام 2008، وقبلها في عام 1991 وعام 1970.

والتراجع العالمي (global recession) عادة يجري في الدول الكبيرة، ومن ثم تنتقل عدواه إلى دول كثيرة ومناطق مختلفة. وحتى تنجلي الصورة، لا بد أن نعرف أكثر عن منحنى العائد المقلوب.

في علم الاقتصاد، تؤكد نظرية الاستثمار في المحافظ المالية أن تنويع المحافظ على مختلف سندات الملكية (الأسهم والرهن العقاري) أو الدّيْن (السندات والأذونات والقبولات وغيرها)، تعتمد على متغيرات ثلاثة، وهي المخاطرة والسيولة والعائد.

وإذا زاد عنصر المخاطرة، أو قلّت احتمالات التسييل، يرتفع العائد المطلوب على الأوراق المالية أكثر. وإذا رفعت الحكومة مثلاً سعر الفائدة، فلهذا القرار أثرٌ ينتقل من نوع من الأصول المالية إلى غيره بمنطق واضح، إذا ما بقي عنصرا المخاطرة والسيولة على حالهما من دون تغيير.
ولكن إذا لم تحصل عمليات انتقال الأثر (transmission) من الأوراق قصيرة الأجل إلى الأنواع الأخرى متوسطة وطويلة الأجل بالشكل المتوقع، فهذا يعني أن للمستثمرين وجهة نظر مختلفة عما يتوقعه المراقبون والمحللون وواضعو السياسات المالية والنقدية.

تعلمنا من مفهوم مصطلح هيكل أسعار الفائدة أن سعر الفائدة على الأوراق قصيرة الأجل يكون أدنى من سعر الفائدة على الأوراق متوسطة الأجل. وتعلمنا أيضا أن العائد على الأوراق طويلة الأجل يجب أن يكون مرتفعاً حتى يقبل المستثمرون بشراء تلك الأوراق، لما تنطوي عليه من مخاطرة أعلى واحتمالات سيولة أقل. هذا هو منطق هيكل أسعار الفائدة.

وإذا استنبطنا منحنى العائد على الأوراق المالية، ذات الآجال المختلفة، فإنه سيعكس صورة هيكل أسعار الفائدة. ولكن إذا صار سعر الفائدة أو العائد على الأوراق قصيرة الأجل مساوياً للعائد على الأوراق متوسطة الأجل وطويلة الأجل، فهذا يعني أن الناس مطمئنة إلى حد ما إلى المستقبل في المدى القصير، وخائفة إلى درجة الرعب من المدى الطويل.

وفي حالة التقلبات السياسية وفوضى الأسواق والأسعار الأساسية، كأسعار الصرف، وسعر الذهب، والنفط، والفائدة، فإن المستثمرين يصرّون على عدم الاستثمار إلا في المدى القصير وبأسعار فائدة مرتفعة. وهكذا ينخفض الطلب على الاستثمارات المالية في الوسائل طويلة الأجل، ما يفتح المجال خلال سنة أو سنتين على احتمال حدوث التراجع الاقتصادي.
لقد لاحظنا، في الأسابيع الماضية، عصبية الأسواق وتوترها، وتقلبات الأسعار استجابة مع الظروف الاقتصادية والسياسية. ولو قمنا بمعاينة التوترات في العالم لاكتشفنا أنها تزداد بشكل كبير. 

فرئيس الوزراء الهندي، ناريندا مودي، يعدّل الدستور بدعم من "لوك صابحا" (مجلس النواب الهندي)، لكي يلغي المادة التي تمنح إقليم كشمير في الهند الحكم الذاتي، بحجة أن هذا الوضع يعطل النمو هنالك. وهذا عذر أقبح من ذنب، ولكنه أحدث حالة توتر.

كذلك قامت الصين بتخفيض عملتها اليوان، فأعلن دونالد ترامب فرض عقوبات إضافية على الصين، وأجلها إلى شهر يناير/ كانون الثاني 2019 أو مطلع العام المقبل، لعل المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تنجح، ولكن الإدارة الأميركية أعلنت المقاطعة ضد خمس شركات تكنولوجية صينية كبرى، على الرغم من تأجيلها يوم الاثنين الماضي ببدء مقاطعتها شركة هواوي الصينية.

ورئيس كوريا الشمالية، كيم جونج أون، يزيد من إطلاق الصواريخ قصيرة المدى في البحر بين كوريا الجنوبية واليابان، ويعلن مقاطعته المفاوضات مع كوريا الجنوبية، وتقوم كوريا الجنوبية بإعلان عقوبات اقتصادية ضد اليابان على شكل مقاطعة لشركات يابانية، بسبب موقف رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الرافض للاعتذار عن الإساءة الإنسانية للكوريين، رجالاً ونساءً، إبّان فترة احتلال اليابان كوريا من عام 1910 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945.

ونرى كذلك أن الوضع السياسي في المملكة المتحدة غير مستقر، بسبب تعقد قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المعروفة اختصارا باسم البريكست. وكذلك رأينا تراجعاً واضحاً في معدلات النمو في ألمانيا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، والبرازيل وأستراليا والهند والصين وكوريا.
ولهذا فقد الناس ثقتهم في المستقبل، وخصوصا أصحاب الأموال الفائضة، بسبب الحديث عن احتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة، والإقبال على الذهب، وارتفاع أسعاره، وعودة الانتعاش إلى سوق العملة الإلكترونية، كل هذا يدل على أن الظروف في المدى المتوسط لا تبشّر بخير كثير. ونحن أمام احتمالية تراجع اقتصادي قد يتطور إلى كساد خلال سنتين، ما يفتح الباب على احتمالات حرب عالمية.

العودة إلى المتعصبين والمشاعر القومية الضيقة، وارتفاع العنف العنصري، واشتداد موجات الهجرة واللجوء تنذر كلها بأننا نعيش في عالم عنده رغبة بالموت (death wish). ولكن هذا كله مرهون باحتمالات عودة العقل والسلام والتعايش لتجنب كارثة إنسانية وكونية، لا قِبَل لأحد بنتائجها.
المساهمون