اعتادت بعض البنوك المصرية (والعربية) خداع البسطاء من العملاء، عندما يطلبون سحب ودائعهم، أو شهاداتهم، الموجودة بالبنك، من أجل حملهم على ترك تلك الأرصدة لديهم. فيبدأ موظف البنك في تقديم عرض جهنمي (أي أنه من جهنم) للعميل، تدور فكرته الأساسية حول إبقاء العميل ودائعه وشهاداته في البنك، على أن يقرضه البنك ما يحتاجه من أموال بضمانها، بحد أقصى نسبة معينة، تراوح بين 80% إلى 90% من قيمة تلك الأرصدة!
ومن أجل تشجيع العميل على قبول العرض، يخبر موظف "خدمة العملاء" عميله بأن ما سيدفعه من أقساط شهرية لسداد القرض، يقل عما سيقبضه من فوائد شهرية على أرصدته لدى البنك، وبالتالي، يكون لديه دخل شهري، يمثل الفارق بين ما يقبضه وما يدفعه، وفي نهاية المدة، سيبقى لديه أيضاً أصل ودائعه التي كان ينوي سحبها في بداية القصة.
العميل، قليل المعرفة بألاعيب البنوك، والتي ربما يجهل حقيقتها الموظف الصغير الذي يعرض الفكرة على العميل دون فهم لأبعادها الاحتيالية، يطير فرحاً بالفكرة، وعادة ما تقبل نسبة كبيرة من العملاء هذا العرض الجهنمي، فيعود إلى منزله ولا يفكر في شيء سوى بكيفية الحصول على أموال إضافية يودعها لدى البنك لتكرار تلك العملية مرة أخرى، من أجل تعظيم أرباحه، والانتصار على البنك، الذي لطالما ظلمه واحتسب عليه عمولات كبيرة غير مستحقة (من وجهة نظر العميل بالطبع)، وها هي لحظة الانتقام قد أتت.
وبغض النظر عن أن هذه العملية تعتبر محرمة شرعاً بإجماع أغلب العلماء (اقتراض غير ضروري)، نظراً لأن العميل لديه من الأموال ما يغنيه عن الاقتراض، لكن هذا ليس موضوعنا الآن، فإن العميل يتغافل هنا عن حقيقة أن البنك وجد ليتربح من العملاء (نعم، فنفسياً، يريد العميل أن يكون موظف البنك على حق)، ولم يوجد ليدفع لأي عميل فائدة على أرصدته، أكثر مما يحصل منه على فائدة على ما يقترضه، وأن حقيقة الأمر أن العميل يدفع فائدة على قروضه تزيد بحوالي 2% إلى 3% في أحسن الظروف عما يقبضه من البنك، لكن هذا أيضاً ليس موضوعنا الآن، وربما أعود لشرحه بتفصيل أكثر في مقالٍ آخر.
لكن موضوعنا الآن، هو أن البنك المركزي المصري نفسه وقع ضحية لنوعٍ مشابه من الاحتيال، ربما يكون هو من سعى إليه. فالبنك المركزي، وبناءً على نصيحة "خبراء" الاقتصاد، عندنا وفي صندوق النقد الدولي، أدرك أن السبيل الوحيد للحصول على قرض الصندوق، وللاقتراض من الأسواق الدولية عن طريق إصدار السندات، هو رفع رصيد احتياطي النقد الأجنبي الموجود لدينا.
فاتجه البنك المركزي للاقتراض الخارجي ممن لم يشترطوا، طوعاً أو كرهاً، ارتفاع رصيد الاحتياطي الأجنبي لإقراضنا، كدول الخليج، والبنك الأفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية. واقترضوا منهم، ورفعوا رصيد الاحتياطي، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الاقتراض من صندوق النقد، ومن الأسواق الدولية عن طريق إصدار السندات!
بالفعل زاد احتياطي النقد الأجنبي، حتى وصل إلى حوالي 38 مليار دولار بنهاية شهر يناير/ كانون الثاني من العام الحالي 2018، لكن حقيقة ما حدث أنه زاد بالاقتراض.
والدليل على ذلك أن القروض الخارجية زادت أيضاً ووصلت إلى 80 مليار دولار بنهاية سبتمبر/ أيلول 2017، وتقول وكالة فيتش إنها اقتربت من مائة مليار دولار بنهاية عام 2017.
ويبدو أن هنا أيضاً، نجح موظف خدمة العملاء بصندوق النقد الدولي، بإقناع البنك المركزي المصري بأن هذه العملية في صالحه (حسابياً)، بغض النظر عن بديهيات حسابات الفائدة الدائنة والمدينة، التي يعلمها موظف أي بنك مضى على تعيينه ستة أشهر، ودون أي خبرات سابقة.
الأرقام المذكورة، والصادرة عن البنك المركزي المصري، تشير إلى أن لدينا ما يقرب من 20 مليار دولار أكثر مما نحتاج في رصيد احتياطي البنك المركزي.
ولو كان رصيد الاحتياطي قد نما نمواً طبيعياً دون اقتراض، كأن تتسبب فيه مثلاً ايرادات إضافية من قناة السويس الجديدة، أو طفرة في الصادرات، أو تقييد في الواردات غير الضرورية، أو تحسن كبير في إيرادات السياحة، أو طفرة جديدة في تحويلات العاملين بالخارج، أو حتى نتيجة لتدفق الاستثمارات الأجنبية، لكانت زيادة الاحتياطي محمودة، ولرفعنا القبعات لكل القائمين على إدارته.
أما وقد جاءت، كما تشير الأرقام الصادرة من البنك المركزي أيضاً، عن طريق الاقتراض، فهنا ينبغي أن نتوقف لنعرف كلفة الاقتراض الزائد عن الحد، والعائد الذي نحصل عليه من استثماره لحين الاحتياج إليه.
ومع غياب تام لأي معلومات، من أي جهة، عن هذين الرقمين، وعدم اكتراث البرلمان الأليف بمناقشة تلك الأمور، فإن أفضل تقدير متحفظ أمكن الوصول إليه يقول إن متوسط كلفة اقتراضنا قليل الكلفة من الخليج (حوالي 2% إلى 3%)، ومرتفع الكلفة من البنك الأوروبي (حوالي 9%)، سيكون في حدود 4% إلى 5%.
بينما أرصدتنا، التي يفرض علينا صندوق النقد الدولي استثمارها في سندات الخزانة الأميركية وما شابهها من استثمارات منخفضة المخاطر، توفر لنا عائدا في حدود 1% -2% في أحسن الأحوال.
أي أننا باختصار نستثمر بعائد 1.5% ما اقترضناه بكلفة 4.5%، محققين ما يطلق عليه "حملا سلبيا" أو negative carry، يقدر بحوالي 3%، على 20 مليار دولار على الأقل من رصيد الاحتياطي، وبكلفة تقدر بحوالي 600 مليون دولار كل عام، أو أكثر من عشرة مليارات من الجنيهات المصرية.
الرقم الأخير جزء بسيط يمكن توفيره من غول كبير لا سيطرة لنا عليه في الوقت الحالي، وأقصد به كلفة الدين الخارجي، البالغة 80 مليار دولار وفقاً لأرقام البنك المركزي، والتي تقدر بحوالي 3.6 مليارات دولار، تحسم مما هو متاح للاستثمار في التعليم والصحة والصرف الصحي، والله يجازي موظفي خدمة العملاء في البنوك التي أقرضتنا.