"دار الصياد" ترفع الراية البيضاء: صحافة لبنان تنقرض؟

29 سبتمبر 2018
تختفي الصحف اللبنانية تدريجياً (Getty)
+ الخط -
في بيروت يحمل أحد شوارع منطقة طريق الجديدة اسم عفيف الطيبي. قلة من رواد هذا الشارع يعرفون من يكون هذا الرجل، أو لماذا سُمّي الشارع باسمه. لكن تاريخ هذه البلاد يخبرنا أن الطيبي كان يوماً نقيباً لنقابة ذاع صيتها، بسبب مهنة ارتبطت لسنوات طويلة بلبنان، وهي الصحافة. اليوم يبدو أن مصير اسم عفيف الطيبي الذي تحوّل إلى مجرد شارع بيروتي، سيكون هو نفسه بالنسبة لدار الصياد التي أسسها سعيد فريحة. حيث سيصبح اسم دار الصياد مجرد اسم لشارع او مستديرة شرق بيروت، بينما سيختفي تدريجياً إرث هذه الدار العريقة وتأثيرها في عالم الصحافة، وذلك بعدما أعلنت الدار المالكة لصحيفة الأنوار وعدد من المجلات الفنية والمنوعة، التوقف عن الصدور ابتداءً من يوم الإثنين المقبل.

الأزمة نفسها

يوم الإثنين تبدأ دار الصياد بالإقفال تدريجياً، وأول الغيث صحيفة الأنوار. تودع الدار التي برزت مع استقلال لبنان القراء، هذا إن أمكن القول إن في لبنان قراءً، بعد أن باتت مبيعات الصحف في بيروت لا تتخطى المئات، وسط صمت رسمي لبناني، لم يرق بعد الى مستوى الفاجعة التي تطوق مهنة انهيارها يعني انهيار جزء من البلد وصورته وتاريخه.
بقليل من الكلام أعلنت "دار الصياد" قرارها، تحت عنوان: "قرار يعلم الجميع أسباب صدوره"، مشيرة إلى أن "دار الصياد قررت أن توقف إصدار الأنوار اعتباراً من الإثنين المقبل، إضافة الى توقف جميع المجلات الصادرة عن الدار"، وإلى أن "السبب الرئيسي لهذا التطور يتعلق بالخسائر المادية".
لا حاجة الى المزيد. بدت كلمات الدار كافية، فالواقع يدركه الجميع، من المسؤولين، إلى أصحاب الصحف، وصولاً الى العاملين في هذه المهنة، لكن يبدو أن أحداً ليس قادراً على اجتراح حلول، تبقي القليل، قبل أن ينضم الآخرون الى الأنوار والسفير، وغيرهما من المطبوعات التي أقفلت تدريجياً.




في الدار يرفض المسؤولون الحديث. الخطوط إما مقفلة أو لا تلقى من يرد على الاستفسارات. باتت حالة البلبلة التي عصفت بالدار وموظفيها الـ80 على مدار الأسبوع المنصرم مؤكدة، فيما أولاد المؤسس سعيد فريحة (إلهام وعصام وبسام فريحة) استسلموا لواقع باتت محاربته أشبه بالانتحار.
تبلَّغ الموظفون القرار كما تبلغه الجميع، على صفحات الجريدة، وباختصار، وكذلك تبلغه الموظفون في المجلات التي تتبع إلى الدار من "الشبكة" التي عرفت مجداً يوماً منقطع النظير، إلى "الصياد" التي كانت أولى محاولات سعيد فريحة، وصولاً الى المجلات الأخرى: "فيروز" و"الفارس" و"الدفاع العربي".
يبدو المشهد مكرراً، يتصل بعض العاملين في الأنوار، بزملاء لهم كانوا يعملون في "السفير" التي أغلقت في العام 2016، أو بزملاء كانوا يعملون في مكتب صحيفة "الحياة" في بيروت، الذي أغلق أيضاً نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي، للاستفسار عما يمكن فعله لتحصيل حقوقهم، خصوصاً أن الإدارة لم تقدم للعاملين بعد أي جواب حول مستحقاتهم وتعويضاتهم، وسط مخاوف من أن تقدم الإدارة على إعلان إفلاسها وبالتالي ضياع المستحقات.


غياب النقابة

الجميع في لبنان يتحدث عن أزمة المهنة، عن الإعلام المرئي والمسموع والصحافة الورقية، عن انهيار كبريات المؤسسات، عن إفلاس البعض، وعن محاولة البعض الآخر الاستمرار بما تيسر، ولو على حساب إغلاق بعض الملاحق أو تقليص عدد الصفحات، لكن في المقابل ثمة أزمة أكبر يتحدث عنها أكثر من مصدر في نقابة الصحافة، تتعلق أولاً بغياب النقابة كلياً، وثانياً بالسطوة السياسية التي أدت إلى إفراغ المحتوى الصحافي من ريادته، لصالح الإعلان السياسي، والتبعية السياسية، فباتت المؤسسات بأغلبها بوقاً للسلطة والزعامات والأحزاب والتيارات، على حساب المحتوى النقدي أو المهني، وهذا عملياً ما دفع المهنة صوب الهاوية، وليس عدد القراء.
تختصر مصادر النقابة الوضع فيها بأنه على حاله، غاب محمد البعلبكي، فجاء عوني الكعكي، ولم يتغير شيء، الفساد على حاله، وغياب النقابة تام، باستثناء محاولة القيمين عليها تأمين إيرادات للنقابة، لا يعلم كيف تصرف، حتى لو عبر تأجير جزء من مبنى النقابة لشركة سيارات.
وتشير المصادر إلى وعود تطلق كل عام لتحسين وضع المهنة، لكن شيئاً لم يتحقق بعد، مستبعدة أن تنجح نقابة تعاني من الاهتراء وبلنتشال مهنة تتطلب خلية أو لجنة طوارىء، وتحركاً رسمياً للدولة.
وتستدل المصادر بما تقول إنه حالة لا مبالاة في النقابة، بالحديث عن المادتين 101 و102 من القانون التجاري، الذي يلزم الشركات نشر ميزانيتها في المطبوعات الورقية، لكن الشركات لا تلتزم ببساطة لأن القانون قديم والغرامة المنصوص عليها تتراوح بين ألف ليرة، وخمسة آلاف ليرة، أي ما بين دولار تقريباً وثلاثة دولارات، إضافة الى قانون متعلق بإلزام الشركات نشر العلامات الفارقة، وهو أيضاً غير مطبق.




هذه الأمثلة تتحدث عنها المصادر بإسهاب بوصفها أمثلة عن ما تسميه "الفوضى العارمة" في النقابة، على الرغم من التحول الكبير الذي تمر به المهنة، والذي يتطلب إعلان حالة طوارئ لدراسة السوق، ومستقبل الصحافة الورقية، وإمكانية استمرارها، وسبل دعمها، إضافة إلى التأقلم مع واقع الإعلام الإلكتروني، الذي عادة ما يطرح في أروقة النقابة كأنه غزو فضائي، مشيراً إلى أن أي نهوض يتطلب أولاً تغييراً في النقابة ودخول جيل شاب قادر على الإصلاح من الداخل، والتعامل مع ثورة الإعلام الإلكتروني، والدمج بينهما.

دار الصياد

يوازي عملياً إغلاق دار الصياد إغلاق صحيفة "السفير" أو يفوقه حتى. لا شك أن "الأنوار" في السنوات الأخيرة لم تكن رقماً صعباً في الصحافة العربية ولا الصحافة اللبنانية، لكن دار الصياد بتاريخها وأرشيفها والمحطات التي واكبتها، على مدار 75 عاماً، هي التي تغيب، وليس فقط الأنوار كصحيفة.
يصعب أن يؤرخ أحد لتاريخ الصحافة العربية من دون المرور بدار الصياد، وتحديداً سعيد فريحة، الذي ارتبط مجد الصحافة باسمه إضافة إلى كثر من رواد الجيل المؤسس أو الأول. سعيد فريحة لا شك واحد من هؤلاء الذين ساهموا بمرحلة ما في نهوض الصحافة اللبنانية والعربية، انطلاقاً من مجلة "الصياد" التي أسسها في العام 1943 مواكباً مرحلة الاستقلال والصراع العربي الإسرائيلي، فتحولت المجلة الى رقم في معادلة القومية العربية، قبل أن تغدو داراً تضم صحيفة الأنوار اليومية في الخمسينات وعشرات المجلات الأخرى، لعل أبرزها "الشبكة" التي كانت صيتها الفني يتردد من المحيط إلى الخليج، وتبيع عشرات آلاف النسخ أسبوعياً.
75 عاماً كافية لتدل على حجم الخسارة. من الاستقلال الى الإقفال، لعل أبرز المفارقات أن الدار التي واكبت الاستقلال، كانت يوماً رأس حربة في الكثير من المحطات من الصراع مع الانتداب الفرنسي، إلى الصراع لاحقاً مع الرئيس بشارة الخوري، وصولاً إلى الصراع العربي الإسرائيلي.
أسس فريحة صرحاً بكل ما للكلمة من معنى، كان مرافقاً للكثير من المحطات، حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي دفعت الدار كثيراً خلالها، خسائر مادية وأخرى بشرية، قبل أن يغادر تاركاً إرثه لأولاده الثلاثة، الذين حاولوا إكمال مسيرة والدهم، قبل أن تبدأ رحلة الانحدار مع بداية الألفية.

في انتظار الوزير

في العام 2013 فجع الجسم الصحافي في لبنان بخبر انتحار الصحافي والناقد السينمائي والفني نصري عكاوي، بعد معاناة مع المرض والعوز. إذ انتهت سنوات عمله في الصحافة، بالبحث عن لقمة عيش وعن بعض من المال ليدفع به مستحقات الطبابة، بعد سنوات من الصراع مع دار ألف ليلة وليلة لتحصيل حقوقه، من عمله في جريدة "البيرق" ومجلة "الحوادث" لم يحصل عكاوي على أي مبلغ، وسئم العوز، فقرر إنهاء حياته. قصة عكاوي كانت ناقوس خطر لحال الصحافة والصحافيين في لبنان. ثمّ توالت النكسات وصولاً إلى بيان دار الصياد الأخير. وحده الصمت أبلغ تعبير عن حال الدار، وعن حال المهنة. وقلة تبحث عما يمكن فعله في الساعات الأخيرة، ومنهم وزير الإعلام ملحم رياشي الذي تواصلت معه "العربي الجديد" للوقوف عند الموضوع، لكنه رفض التحدث مفضلاً الانتظار إلى يوم الإثنين، وواعداً بالحديث واتخاذ موقف، تقول المصادر إنه يتزامن مع مساع واتصالات تجري بين أولاد سعيد فريحة، وبعض الجهات في الوزارة. لكن في انتظار موقف الوزارة، تبدو تجارب الصحف التي أقفلت في وقت سابق، مثل "السفير" أو "الاتحاد" أو مكتب "الحياة" في بيروت غير مشجّعة بالنسبة للموظفين المصروفين، الذين خاضوا معارك شرسة لتحصيل حقوقهم.

دلالات