"الأشجار في لوحاتي تعيسة، الزهور تكره الحياة". بهذه الكلمات، يصف الفنان جون لوري الطبيعة في لوحاته التي يرسم بعضًا منها أمامنا في برنامجه Painting with John، من إنتاج HBO.
تنقسم حلقات المسلسل الاثنتي عشرة إلى موسمين قصيرين يمتدا على وتيرة واحدة، رغم الفارق الزمني بينهما، كتبهما وأخرجهما وألف مقاطعهما الصوتية الموسيقي السابق جون لوري، الذي تخلى عن عالم الموسيقى والتمثيل، وانتقل إلى فنون الرسم، إثر إصابته بمرض لايم.
يوحي عنوان المسلسل أننا على موعد مع عمل تعليمي عن الرسم، يشارك فيه لوري تجربته كرسام مع نظرائه من محبي الرسم ومحترفيه، ويدعوهم للرسم معه على طاولته الصغيرة . سرعان ما يدحض الفنان متعدد المواهب تلك الفكرة الأولية، مفتتحًا حلقاته الأولى بتخطيء بوب روس الذي قال يومًا إن بإمكان الجميع أن يرسم.
لا يستطيع الجميع الرسم، ولا حتى العيش، إن أردنا اختزال أفكار لوري، الذي لا يثق بشخص ابتسامته "غير كاملة" بعدما سمع ضحكًا حقيقيًا في تايلاند وأفريقيا. يجد الرسام نفسه في عزلة عقله والغابات، محاطَا بما ومن يحب، بعيدًا عن صخب الثقافة وعوالم الاستعراض. يحادث الكاميرا بعفوية، وأحيانًا يلتفت إلى صديقتيه نزرين وآن ماري بوصفهما شريكتيه في التمثيل والإنتاج والسكن. يخبرنا قصصًا عن جيرانه الجدد من البشر والزواحف، وأحاديث عن ومن ماضيه، واستنتاجات وصل إليها حول الحياة والفن، وشيئًا بين هذين الاثنين أيضًا، في ذات الوقت الذي تلتقط فيه الكاميرا ضربات ريشته الدقيقة وهي تدس اللون عميقًا في نسيج الورق، أو "الأشياء الجيدة فقط" من الجزيرة الكاريبية التي انتقل إليها لوري حديثًا.
ليس من المنصف إطلاق وصف السيرة الذاتية على Painting with John، فهو خليط بين الواقعي والفني والمتخيل، على غرار حياته نفسها. فيه شذرات ومواقف مؤثرة ينتقيها لوري بعناية من حياته الشخصية، إلى جانب كثير من المشاهد المشبعة بأسلوب لُعبي، تصل إلى حد امتطاء الأحصنة الورقية في تمثيلية أبطالها رعاة البقر الكاريبيين، أو الرقص المطول على منصة بناها لوري في العراء لتلك الغاية ذاتها، أو تقديم دروس حول كيفية صنع أسلحة البطاطا ودحرجة الإطارات في الفناء الخلفي المورق. اللعب بما فيه من تقاطعات مع الممارسات الفنية هو مفتاح لفهم شخصية الفنان، ومدخل للعيش بوصفه شكلًا من أشكال الفن وانفلاتًا من كل قيد.
يحكي لوري أن والده انتظر مكالمة هامة في الوقت الذي قرر فيه شقيقه الأصغر إيفان تقمص شخصية مايتي ماوس الكرتونية. جاءت المكالمة بعد طول انتظار، لكن إيفان رفض تمريرها ما لم يعترف المتصل بهويته الجديدة. لم يغضب الأهل كما هو متوقع. أن يكون إيفان مايتي ماوس بدا أكثر أهمية من المكالمة بالنسبة لهما. يربط لوري بين تلك الحادثة وفهم الفنان وداعميه للإبداع بما هو فضول طفولي دائم، وتصديق للأوهام التي تتنافى مع رحلة النضج. مهما بلغت أعمارنا، ينصحنا لوري بأن نحصل على قليل من المتعة فقط خلال اليوم.
في الموسم الأول، يسيّر لوري كاميرا الدرون بنفسه، فترتطم بشجرة وتحيد عن هدفها عشرات المرات إلى أن تدركه أخيرًا في اللقطة الختامية، التي ذهب ضحيتها سبع كاميرات تحطمت قبل هبوطها. بهذا المستوى من الكفاءة والجدية، يدير لوري مسلسله، فيبدو عملًا تجريبيًا فيه من الجنون ما في شخصية الرسام نفسه، وهو الطفل الأبدي الذي يجد في صحبة توم ويتس وجيم جارموش جنونًا مماثلًا، ترجمه الثلاثي في عديد من الأعمال المستقلة المشتركة، ومنها Coffee and cigarettes وStranger Than Paradise، وDown By Low، خلال الفترة الذهبية من سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، حين أنشأ لوري بصحبة شقيقه إيفان فرقة The Lounge Lizards الطليعية، وكان عنصرًا رائدًا في حركة البوب الأميركية في نيويورك.
بصوته الذي يشق الليل الاستوائي الكاريبي، ويذكرنا إلى حد كبير بالحناجر المعتقة من أيام روك الثمانينيات، يستطرد لوري في سرد ذكرياته على هيئة دردشات لا تذهب إلى هدف محدد، إلا أنه ينجح في إبقاء حكاياته مثيرة للاهتمام والفضول أيضًا. لا يمكن التنبؤ بما سيقوله أو يفعله تاليًا، وكذلك تفاجئنا قدرته على تحويل العادي من الحياة اليومية إلى متعة خالصة أو عبرة بالغة التأثير، يزيد مفعولها التأملي تراقص النباتات من خلفه أو نقيق الضفادع الإيقاعي الذي استقى منه لوري معظم القطع الموسيقية المستخدمة عبر المسلسل. تضاف إلى قصص الهيبستر البالغ من العمر سبعين عامًا أساطير الجزيرة وحكاياها الشاعرية أيضًا، وإحداها عن رجل شرب حتى الثمالة في بحيرة لا قاع لها ومات، وهي اليوم مرتع للثمالى من سكان الجزيرة. وحين يبتلع البحر الكاريبي الشمس البرتقالية، يحفز لوري مشاهديه على قول شيء شعري في وصف مشهد الغروب، ثم يرجوهم في الموسم الثاني أن يتوقفوا عن إرسال القصائد.
يفعل لوري أشياء كثيرة لا يحبذها، ربما تعبيرًا عن تخبط الثقافة المعاصرة في أكثر لحظاتها اضطرابًا، فيحلق غابة الشعر في أذنه بعدما ضحى بوسامته من أجل الإنسانية، على حد قوله. ويشير خلال التصوير إلى غرابة التحدث مع الكاميرا كما لو أننا نتحدث إلى شخص، مؤكدًا أن من يجيدون فعل ذلك لا بد أنهم معتلون اجتماعيًا، حتى يصل به الأمر إلى أن يطلب من مشاهديه في لحظة غريبة ومربكة أن يسدوا إليه معروفًا ويتوقفوا عن مشاهدة بث الحلقة.
على الرغم من إصراره في تلك المواقف، سيكون من الصعب إدراك غايات لوري حتى في أكثر أوقاته جدية واتزانًا، فهو يجبل أحاديثه بالمزاح تمامًا كما يخلط اللون بالماء. لوحاته التي توحي عناوينها بسخرية من نوع ما، مثل: "لا يوجد لديهم اسم لما هو عليه"، تحمل كثيرًا من أفكار لوري وحس دعابته. كذلك الأمر بالنسبة لكثير من الحكايات التي يقصها عبر المسلسل، فما إن نعتاد تعليقاته المضحكة وتهكمه اللاذع حتى يباغتنا بحديث عاطفي، يتسلل إلى مساحات حميمية وقاسية، يقوده لوري بضربات من ريشته السريعة والمضطربة، كأن يحكي قصة عن غور فيدال الراحل الذي تجاهل لوري عندما ساعده في حمل حقيبته الضخمة في المطار، وأخرى عن أنتوني بوردان الذي قتلته الشهرة، وصولًا إلى معاناته مع مرض السرطان قبل سنوات مضت.
عاش جون لوري حياة مثيرة للاهتمام ومليئة بالفن والجمال والمرح والكثير من اللحظات المؤلمة التي يتجاوزها لوري بالضحك والعبث. تؤكد لنا مسيرته أن الإبداع لا يحتاج إلى مهارات خارقة أو أدوات باهظة الثمن. يكفي أن روحه حاضرة في أعماله وقصصه وحتى في مسكنه الصغير الذي يشبهه في فوضويته وبساطته. في سن السبعين، ما زال لدى لوري الكثير ليقدمه، ونحن ننتظر.