The Mole Agent: عجوز بأيامه القليلة وكاميراه السرية

22 ابريل 2021
نتعرّف إلى قصص مختلفة حول كلّ نزيل ونزيلة (Imdb)
+ الخط -

ربما تكون الطريقة التي تُلخّص عبرها أحداث فيلمٍ ما مفتاحية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في تحديد مصيره. فبينما لا تزال التوصيات الشخصية وآراء النقاد وغيرها تلعب دوراً في عملية الاختيار، إلاّ أنّ أولى خطوات البحث الجاد تبدأ عند ذلك المربع الصغير الذي يعرضه محرك "غوغل" صانع الحقائق الأكبر اليوم، وما يمكن أن يلعبه من دورٍ في جذب أو نبذ مشاهد ما، فيكون اختيار تلك الكلمات القليلة اليوم جزءاً لا يمكن إغفال أهميته ضمن عملية التسويق بالمجمل.

تنطبق المقدمة السابقة بالكامل على The Mole Agent الوثائقي التشيلي لمخرجته مايتي آلبيردي، والمرشح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلمٍ وثائقي، إذ حالما يقرأ المشاهد الملخص عن العجوز الذي سيدخل داراً للمسنين متخفياً ليبحث عن أيّ دلائلٍ على إساءة المعاملة هناك، سيفترض أنّه أمام ذلك النوع من الأعمال الجادة التي تنتهي مقولاتها أو كشوفاتها عند حقائق ملموسة وإجراءات قضائية، وهذا بالطبع ما لن يجري.

وعوضاً عن ذلك، سيجد المشاهد نفسه أمام اكتشافاتٍ أكثر عرضة للتأويل وتأملاتٍ عن التقدم في السنّ والوحدة والدراما نفسها، في فيلمٍ لا يخادع مشاهده عبر نتائج البحث وحسب، بل عبر التصنيف والنوع الدرامي أيضاً.

ماذا يجري في الفيلم؟

يبدأ الوثائقي عند إعلانٍ في صحيفة، يطلب رجالاً تتراوح أعمارهم بين 80 عاماً و90، يتمتعون بالاستقلالية والسرية والقدرة على التعامل مع التكنولوجيا، لصالح وكالة تحريات خاصة. وبعد عملية انتقاءٍ، يقع الاختيار على سيرخيو، الذي يبلغ من العمر 83 عاماً. نعرف بعد ذلك أنّ سيرخيو سيدخل المصح متخفياً للتأكد من سلامة مقيمة هناك تدعى سونيا، والتأكد من أنّها لا تتعرض لأيّ إساءة، بناءً على طلب الموكلة التي تكون ابنتها. يتناقش سيرخيو بالمهمة مع ابنته التي تبدي تخوفاً من التبعات القانونية لهذه المهمة، ويبدو أن تخوفاتها لا تشكل نداً لرغبة أبيها في تحرير ذهنه والانشغال بشيءٍ يصرفه عن التفكير في زوجته التي فقدها منذ أربعة أشهر. يجهَّز عميلنا السري بقلمٍ ونظارة طبية مزودتين بكاميرات، لكي يعمل متخفياً، ويتفق على مجموعة شيفرات وبروتوكولات مع المحقق الخاص ليسهل تزويده بالتقرير اليومي عما سيراه هناك.

إضافةً إلى ذلك، تنجح المخرجة في إقناع الدار بالتصوير داخلها بحجة إعداد وئائقي عن دور المسنين، لكي يتسنى لها تتبع سيرخيو هي الأخرى، وهو ما يجري بعد أن يدخل سيرخيو دار الرعاية. هناك، يبدأ سيرخيو باكتشاف المحيط بحذر وتمهل، بحثاً عن هدفه. يتعرّف أثناء ذلك على النزيلات والنزلاء، الذين يبلغ عددهم 40 امرأة وأربعة رجال، بمن فيهم هو. عند هذه النقطة، يبدو أنّ The Mole Agent يمضي في خطين، ونوعين دراميين مختلفين، يحاكي أولهما عملاً كلاسيكياً من أعمال الفيلم نوار، بينما يأخذ الآخر إيقاعاً أكثر هدوءاً، إذ يتفحص حيوات النزلاء في الدار.

هناك، يتعرّف سيرخيو ومعه المشاهد على القصص المختلفة التي تكوّن كل نزيلٍ أو نزيلة. هناك الشاعرة، ومهووسة السرقة التي تعتقد أنّ أمها ستأتي قريباً لاصطحابها، وهناك من يخشون فقدان الذاكرة أو من يبحثون عن حبٍ جديد. وبينما يعتمد سيرخيو على كلّ هؤلاء لإعداد تقاريره اليومية بداية الأمر، سرعان ما يجد نفسه قد فقد هذا الحياد، وبات جزءاً من قصصهم وأيامهم التي تمر ببطء. لكنّه يبقى مركّزاً على الهدف، سونيا، التي يصل إليها نهاية الأمر، ويبدأ بالتأكد من مجريات يومها.

تمرّ ذكرى افتتاح الدار، وبعدها عيد ميلاد سيرخيو الرابع والثمانين. تعترف إحدى النزيلات بحبها لسيرخيو، الذي كان لا يزال ينعى فقدان زوجته، ويتواصل مع المحقق الخاص ليؤمن له صور أسرة إحدى النزيلات التي تخاف أن تنسى وجوههم. وقرابة نهاية الفيلم، تموت الشاعرة ويصل سيرخيو في تقريره الأخير إلى أنّ الأمر الوحيد الذي تعانيه سونيا هو الجفاء، الذي دفع ابنتها - بفعل الإحساس بالذنب - إلى إرسال المتحري بالمقام الأول عوضاً عنها. ومع نهاية تقريره، يخرج سيرخيو من الدار ويعود إلى حياته السابقة، حيث تنتظره أسرته.

ها هو المحقق، أين القضية؟

متسلحاً بانطباعٍ عام، عما سيقدمه الفيلم، سيفاجأ المشاهد بالطريقة التي تبتدئ بها الحكاية. مكتب المحقق الخاص وكلّ المَشاهد التي تتعلق بهذا القسم، تبدو محاكاة ساخرة لأفلام النوع وموسيقاها التي ستميّزها الأذن فوراً. عند هذه النقطة، سنسأل أنفسنا: هل من اللائق للتحقيق بادعاءٍ كإساءة معاملة مسنين أن يُقدَم بهذه الطريقة؟ وهل هذا فيلم وثائقي أساساً؟ لا يجيب الفيلم عن هذه الأسئلة دفعةً واحدة، إلاّ أنّه يبدأ بتركيز أنظارنا على ما يريد تقديمه بالفعل. فمنذ مشاهدتنا اختبار تحديد الجاسوس الأمثل، لا يسعنا إلاّ أن نتساءل: ما الذي يدفع أشخاصاً بهذه السن للتقدم إلى عملٍ كهذا؟ بالطبع سيكون الدافع المالي واحداً من الأسباب (وإن لم يكن حاضراً في الفيلم)، إلاّ أنّ عوامل أخرى تلعب دورها هنا.

إنّ كلّ المتقدمين الذين ينتمون للشريحة العمرية نفسها يتشاركون الإحساس بأنّ لا شيء جديداً يجري في حيواتهم، وبأنّ أفضل الأيام قد مرّت وما تبقى هي محاولات يائسة للحاق بركب زمنٍ سريع. ولا شيء يعبّر عن هذا كمحاولة هؤلاء إظهار قدرتهم على استعمال هواتف آيفون، بكلّ ما تثيره هذه المحاولات من كوميديا بدايةً، ومن ثم تعاطف. وها هي فرصة لبعض الإثارة، لقليل من الإحساس بشيءٍ مهم كالعمل خفيةً. والواقع أنّ سيرخيو يتحدث عن هذه النقطة صراحةً مع ابنته، وللمفارقة فقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يبدو فيه دار المسنين المكان الذي يوفر هذا الإحساس لمن سيدخله. سرعان ما يتغير الإيقاع داخل الدار وينتقل التركيز نحو النزلاء الذين يبدون تشككاً في تجسس الكاميرات عليهم، وعند هذه النقطة سيبدأ المُشاهِد بتوقع اختلاف في مسار الرحلة، ولن يكون الفيلم بالضرورة معنياً باكتشافات قاسية.

في الواقع، يبدو أنّ الفيلم هنا لا يبحث عن اكتشافٍ معين، بقدر ما يحاول التقاط وجمع الحكايات من عالمٍ قلما نلقي عليه بالاً، نحن الأحرار. وكي لا نبدأ بالتوهم، علينا أن نشير إلى أنّ الفيلم بشكله الحالي هو نتاج تصوير أكثر من 300 ساعة، ربما كانت مخرجته في البداية معنية فعلاً بالبحث عن وجود حقيقة مؤلمة أم لا، إلا أنها عندما اختارت ما تريد أن ترويه عبر 90 دقيقة، اعتمدت هذا الأسلوب الذي يتجنّب التشويق الرخيص ويبدو أكثر أمانة. وإذا ما تركنا بطلنا سيرخيو قليلاً، فإنّ الفيلم ينجح في تصوير هذا المجتمع المصغر، المتديّن، الذي تشكل النساء غالبية تعداد نزلائه.

ثمة تراتبيات معينة هناك، قد تكون الاستقلالية - بمعنى القدرة على تلبية احتياجات الذات - أهم ركائزها وشبكة علاقات خاصة وقصص لكلّ شخصٍ يعرف الفيلم كيف يتوقف عندها، مثلما يفعل حين يعرض أمل إحدى النزيلات بعودة أمها، وكيف يضطر العاملون إلى الاتصال بها من هاتفٍ آخر وإقناعها بأنّ الأم قادمة لا محالة... أو حين يعرّفنا على الشاعرة حين تختار قصيدة ترفع فيها نخب حياةٍ سعيدة، حيث يسود الحب ولا يشعر أحد بألمٍ أو أذى، وينجح الصدق والعمل في جلب السعادة إلى جنس البشر.

تبدو الأمور أكثر جدية عند سيرخيو، لكنّه هو الآخر يبدأ بإدراك القسوة الفعلية تدريجياً، ويكشف شخصيته الحقيقية كإنسانٍ عذب وعطوف ومسؤول، ولو أنّ بعض صفاته تتقاطع مع محققي أفلام تلك الحقبة الذين يرتدون المعاطف الطويلة، كالعلاقة المعقدة مع الماضي. وفقاً لسيرخيو، فإنّ غياب الأسر وإهمالها هما الجريمة الفعلية الواقعة على نزلاء هذا الدار، ما يجعله مهتماً بهم كلّهم لا بسونيا فقط، وهو ما يتقاطع أحياناً مع غرض مهمته الرئيسية وربّ عمله (وهو صراع مألوف، بين المحقق الميداني وذاك الذي يجلس في المكتب)، وبين تأثره بالجهد المبذول في عيد ميلاده وبكائه، ومن ثم مشهد جنازة الشاعرة، فإنّ سيرخيو يبدو وقد فهم ديناميكية المكان بالكامل، وبات يتعامل مع أسرة وأصدقاء حقيقيين، وهو الدافع وراء تسجيل "الواتساب" الأخير لربّ عمله، الذي يلعن فيه الوحدة ويدعو الابنة إلى التعايش مع ذنبها وإصلاح الأمور.

إنّ The Mole Agent (الاسم الأصلي بالإسبانية El Agente Topo، ومعناه المحقق الكسلان، نسبة إلى حيوان الكسلان المعروف ببطئه) بلعبه على الأنواع وبمشاهده التي تثير الضحك أحياناً، والدموع أحياناً أخرى، ليس الفيلم الوحيد، أو الأبرز، الذي يقترب من مواضيعٍ حساسة، ومخيفة حقيقةً، عن هذه المرحلة العمرية التي نخافها أنفسنا ونخشى كيف سيعيشها أولئك الذين نحبهم. فعلى الجهة الأخرى، ينال فيلم The Father، الذي حاز ستة ترشيحات، وتطرّق هو الآخر إلى موضوعات شبيهة، حصته من النقاش اليوم، لكل الأسباب الصحيحة.

في مجتمعٍ مثالي، لن يُنبذ أحد بعد أن يُستهلَك عمره ويكف عن كونه "منتجاً"، أو يمضي ما تبقى من أيامه خائفاً منها أو وحيداً. لكن هذا ما لا يحدث في الواقع دائماً، وإن كانت جائحة فيروس كورونا الجديد قد حرّضت نزعاتٍ "داروينية" وموازنات بين شرائح بحدّ ذاتها وفتح السوق، فإنّ هؤلاء كانوا أبرز المتضررين منها. ومثل كثير من الأفلام، كان The Mole Agent معداً لتجربة تلقٍ مختلفة، في عالم ما قبل كوفيد-19، إلاّ أنّ هذا التغيّر اليوم لم ينتج تأويلاً مختلفاً أو يفقد الفيلم شيئاً من راهنيته، بل أكّد أنّنا بحاجة إلى أعمالٍ كهذه.

المساهمون