استناداً إلى بحثين اثنين، "حبُّ الحرير" لفواز طرابلسي (باللغة الفرنسية، "بيروت إكسبرس"، 1996)، و"منزل" إلى "آلهة منزل واحد: جندر، طبقة وحرير في القرن الـ19 في جبل لبنان" لأكرم فؤاد خاطر (باللغة الإنكليزية، جامعة كمبريدج، 1996)، تكتب ميشيل كسرواني نصّ فيلمها القصير "يرقة" (2022، 29 دقيقة)، المُشارك في مسابقة الفيلم القصير، في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/ شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي (البرليناله)".
بحثان يُشكّلان نواة درامية لنصٍّ، يمتدّ على مئات السنين، وينفلش على عوالم وبيئات ووقائع عيش، ليروي حكاية شابتين تهاجران إلى ليون الفرنسية، وتعملان في مقهى، وتواجهان ثقل تاريخ وذاكرة، وراهناً وأوضاعاً.
أسمى (مسا زاهر) وسارة (نويل كسرواني، المُشاركة في الإخراج أيضاً) شابتان مهاجرتان منذ وقتٍ. تعملان في مقهى. تحملان ثقلاً، فردياً وجماعياً. تحاولان الاستمرار في عيشِ حياة غير مُريحة. تتساءلان عن لحظة وماضٍ وعلاقاتٍ ورغبات ومستقبل. تبحثان في أحوالٍ، شخصية/ ذاتية وعامة. إنّهما شابتان قلقتان. للتاريخ ضغطه، وإنْ من دون وضوح مباشر لضغطه، فالنصّ السينمائي يروي فصولاً من المعاناة التاريخية للمرأة، في مصانع الحرير، مستعيداً (النصّ) متغيّرات، في البيئة والاجتماع والعلاقات، في لبنان القرن الـ19، والتفكير الغربي (الفرنسي تحديداً) في نهبه موارد البلد، بتشغيل النساء في ما يُشبه السُّخرة.
المقارنة بين ذاك الماضي وراهن الهجرة متلائمٌ مع سياقٍ درامي، يكشف أوجاع شابتين، سورية (أسمى) ولبنانية (سارة)، في مواجهتهما اليومية أنماطاً شتّى من القهر والتعب والارتباك. معلومات تاريخية مروية بسلاسة، والصُّور تدعم المرويّ ببساطة غير خافيةٍ عمقَ الجرح النسائي، وقوة المرأة في ابتكار أدوات عيش وصمود.
"يرقة" غير نسوي، رغم أنّه يرتكز على نساءٍ، ويروي حكايات نساء، ويُصوّر شابتين في عيشهما. الأهمّ من تصنيفات كهذه كامنٌ، أساساً، في البناء السينمائي لنصٍّ، يجمع التاريخ بالحاضر، ويطرح أسئلة الهوية والانتماء والهجرة والحياة والجسد والمشاعر والعلاقات، بعيون الشابّتين، وأحاسيسهما وتأمّلاتهما.
مقارنة أخرى تمتلك جماليتها، السينمائية والحياتية والاجتماعية: دود القز (صُنع الحرير) والعنكبوت، الذي يصنع خيوطاً ليحمي نفسه، بينما دود القزّ يصنع خيوطاً يستفيد منها تجّار الحرير. سلاسة المقارنة بين ماضٍ وراهن تنسحب على سلاسةٍ، بصرية وفنية وسردية، بين نوعين/ عالمين من الحيوانات. هذا دافعٌ إلى تفكيرٍ، لاحقٍ على المشاهدة. السلاسة في ضخّ المعلومات، وتعرية الشابّتين وأسئلتهما وعيشهما وانفعالاتهما، تُتيح للصُّور (تصوير كريم غريّب) قولاً صامتاً، سيكون امتداداً لبوحٍ، داخلي أحياناً، تقوله أسمى وسارة لنفسيهما أولاً. التوليف (كونستانتان بوك) يُكمِل سرد الحكايات وتصوير المشاعر والحالات، متّخذاً من التقطيع السريع، أحياناً، فعلاً بصرياً لرفع نسبة التوتر والقلق، ويختار لحظاتٍ أهدأ في مقاربة ما يمتلكه من مواد بصرية ودرامية وسردية، للإمعان أكثر في تفكيكِ فردٍ وبيئة وذاكرة وحالة.
في الملف الصحافي، يقول التعريف بنصّ "يرقة" - المعروض أولاً في الدورة الـ16 (14 سبتمبر/ أيلول ـ 31 ديسمبر/ كانون الأول 2022) لـ"بينالي ليون" ـ إنّ الشابّتين قادمتان من "بلاد الشام". هذا يُشير إلى الفحوى الدرامية، التي تجمع الحاصل في أزمنةٍ قديمة براهنٍ، يكون المشترك بينه وبين الماضي قهراً وتسلّطاً وقسوة، تعانيها المرأة. لكنّ الجمع بين زمنين غير مباشر في قول، يتوضّح تدريجياً في توطّد العلاقة بين أسمى وسارة، في ليلةٍ تمضيانها معاً بالتجوّل في شوارع المدينة، والجلوس أمام بحيرة كبيرة، وكلامٍ يُصاغ في قلبٍ وروحٍ ورغبات.
البداية تختزل ذاك المضمون، بإشارتها إلى مغزى النصّ وسرديته، تماماً كإشارة العنوان الفرنسي للفيلم: "إنّه في دفء (ما بين) الثديين، تفقّس اليرقات". كأنّ الإشارتين منطلقٌ لتقصّي وقائع وسرديات، بلغة الصورة. معطيات التاريخ مروية أصلاً بنبرة تبدو عفوية وسهلة النطق، ومتحرّرة من كلّ خطابية وتلقين. للنطق نفسه نبرة القلق والغضب والألم، لكنْ من دون إسرافٍ وتصنّع ومباشَرة. اللاحق على البداية يرسم معالم النصّ: شابّتان تعملان في مقهى، يتّضح - كلّ لحظةٍ ـ أنْ لا ترابط بينهما ولا علاقة خارج "المهنة". هذا غير دائمٍ، فمسائل تحصل، دافعةً الشابّتين إلى تواصلٍ أعمق وأجمل.
كأفلامٍ كثيرة أخرى، يُمكن تحليل "يرقة" من ناحية السياسة/ الهجرة/ الاجتماع، وذاك الماضي النسائي الأليم، وثقل "الاحتلال" الفرنسي لبلاد الشام، ونهب "خيراتها". لكنْ، هناك ما يحثّ على مقاربة سينمائية بحتة، لما في الفيلم من تفاصيل تمتّع عيناً، بسردها حكاية ذاك الماضي وامتداداته المختلفة. صُور فوتوغرافية، واشتغالات تقنية/ فنية، وتماثيل/ متاحف: فنون عدّة لها حيّز يُكمِل شيئاً من المرويّ بصرياً وتوثيقياً.