"ويكيبيديا" وحرب التحرير: ما يحدث في غزّة إبادة جماعية

21 اغسطس 2024
في رفح، 21 يونيو 2024 (عبد الرحيم الخطيب / الأناضول)
+ الخط -

لطالما كانت صفحات ويكيبيديا الخاصة بالنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي ساحة معركة شرسة، سواء في ما يخص التسميات أو الدقة التاريخيّة، أو بعض الأحداث المفصلية، لتشهد صفحات ويكيبيديا، حسب المصطلح المتداول، "حرب التحرير" أي Editing War. حرب تدور حول سردية "الصراع"، ومن يملك الحق بالتسميّة.
آخر ساحات هذه "الحرب" هي صفحة ويكيبيديا الخاصة بـ"الإبادة الجماعية في غزة" باللغة الإنكليزيّة، التي اتفق مُحرّرو "ويكيبيديا" على أنها لم تعد "اتهامات بارتكاب إبادة جماعية"، بل إبادة مع حذف كلمة اتهامات، علماً أن محكمة العدل الدوليّة لم تقرّر وجود إبادة بعد، لكن يبدو أن بشاعة ماكينة قتل الاحتلال الإسرائيليّ، وعدد الضحايا الذي يزداد يومياً، لم يعد يحتمل النقاش.

اعتمد من صوتوا لصالح كلمة "إبادة" على "الإجماع الأكاديمي" و"دراسات الهولوكوست"، حسب "المجلة اليهوديّة" التي لاحقت الموضوع، في حين أن بعض المنتقدين رأوا أن هذا الإجماع نفسه في الأكاديميّة مشبوه، كوننا الآن نواجه "تحويل الأكاديميات إلى مساحة للسردية الفلسطينيّة"، فضلاً عن "تحيز الأكاديميات ضد إسرائيل"، واعتماد "ويكيبيديا" معايير مزدوجة في وصف الصراع.

هذا التصويت وما نتج عنه من اعتماد كلمة "إبادة جماعية" ذو قيمة رمزية؛ إذ لم يساهم في إيقاف القتل، ولم يلعب دوراً في إدخال المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر، لكنه يكشف طبقات المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وسرديته، تلك التي وصلت باتهام الأكاديميا بعدم الحياد، بل وتبني السردية الفلسطينية، وكأن في ذلك تهمة.

تحوي المقالة أكثر من 500 علامة مرجعية، وعشرات المقالات الأكاديميّة، لكن يبدو أن "كلها" منحازة. وهنا بالضبط تتضح بروباغندا الاحتلال الإسرائيلي؛ فكل ما لا يطابق ادّعاءاتها، إما "معاد للسامية" أو منحاز. هذه الاتهامات بالضبط تعيدنا إلى استراتيجية إسرائيل الدفاعية القائمة على التلاعب بالعقول (Gaslighting)، أي ليس فقط التشكيك بالمعلومات والوقائع، بل اتهام من يتبناها بأنه معطوب عقلياً وغير قادر على الإدراك.

ويبدو أن هذا الاتهام يشمل الأكاديميا، و"ويكيبيديا"، ومحكمة العدل الدولية، والأطفال الذين شهدوا موت أهلهم في قطاع غزة. لا أحد يفهم إلا إسرائيل، وهذا ما أصبح مكشوفاً وواضحاً، خصوصاً في الاحتجاجات التي انتشرت في الجامعات الأميركيّة، فسياسة التكذيب لم تعد مجدية.

لا يمكن إنكار الإشكاليات التي تحيط بلفظ إبادة جماعيّة، خصوصاً أنها "جريمة الجرائم" وأشدها فداحة في التاريخ، لكن ضرورة ترسيخ هذه اللفظ والبرهنة عليه بصورة واعية بعيدة عن العواطف جزء من المقاومة المستمرة، خصوصاً أمام سطوة الاحتلال الإسرائيلي في عالم التكنولوجيا والتحيز الواضح في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات النشر للسردية الإسرائيلية، وحجب الكثير من الكلمات والمنشورات. لكن ما يخلق نوعاً من الأمل، أن هذه الصفحة، إن بقيت على حالها، ستبقى وثيقة للتاريخ، وتتربع على رأس صفحات محركات البحث عن الحديث عن الجرائم الإسرائيليّة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وسائر البلاد المحتلة.

اللافت في المقال المنشور أنه يميز بين أنواع الإبادة الجماعيّة، وبين الضحايا المباشرين (الذين قتلهم القصف الإسرائيلي) والضحايا غير المباشرين (كالجرحى والمصابين بالأمراض إثر الحصار ومن قُتل نتيجة المجاعة ونقص المساعدات والمعدات والعقاقير الطبية) وغيرها من الحيثيات الخاصة بالجريمة وتعريفها القانوني، أي نحن لسنا أمام جهد اعتباطيّ قائم على العواطف، بل عمل يسعى إلى الدقة والإحاطة بجوانب الإبادة الجماعية واستمرارها في الزمن. ومحاربة إسرائيل هذه المقالة بالذات تندرج تحت إبادة الذاكرة، وحرمان الغزيين من سرد حكايتهم للتاريخ. وهذا ما فعله الاحتلال فعلاً في حرب الإبادة التي يشنّها ضد الشعب الفلسطيني؛ إذ عمد على قصف وتخريب وتدمير كل ما يتعلّق بذاكرة الغزيين.

المساهمون