سُئل مايكل لانغ الشاب، أحد مؤسسي مهرجان وودستوك في مقدمة وثائقي HBO الجديد "ميوزيك بوكس Music Box" الذي بدأ عرضه في 23 يوليو/تموز الماضي: "ما هو أسوأ جزء في تشغيل المعدات الموسيقية؟"، فأجاب لانغ سريعاً: "السياسة" متحدثًا عن اللحظة الأشهر في تاريخ موسيقى الروك: مهرجان وودستوك الشهير.
400 ألف متفرج هاربٍ من آثار حرب فييتنام الشنيعة، ومن اغتيال مارتن لوثر كينغ، شكّلوا لثلاثة أيام جمهور الروك الأكبر في ستينيات القرن الماضي، شاهدين على اللحظة الأهم في تاريخ الموسيقى الشعبية والثقافة المضادة.
عام 2004، احتل المهرجان الموسيقي المرتبة 19 في قائمة مجلة "رولينغ ستون" للحظات الخمسين التي غيرت تاريخ موسيقى الروك آند رول، وبات مسرحه موقعًا سياحيًا مدرجًا في السجل الوطني الأميركي للمواقع التاريخية، فضلًا عن دوره الكبير في دفع الاقتصاد المحلي حتى يومنا هذا. إذ يشير تقرير مركز بيثيل وودز (2018) إلى أن المهرجان حقق أرباحًا بقيمة 560.82 مليون دولار في مقاطعة ساليفان، وخلق ما يعادل 172 وظيفة بدوام كامل لاجتذابه أكثر من 20 مليون زائر في ذات العام.
كان من المفترض أن يقام المهرجان في بلدة وودستوك للمرة الأولى عام 1969، لكن اعتراض سكانها على الفكرة بشكل تام، جعل مؤسسي المهرجان يبحثون عن مكان آخر للعرض، فعثروا على 300 فدان في مدينة وولكيل في نيويورك، ظانين أن المهرجان لن يجذب أكثر من خمسين ألف متفرج. لكن ظنهم كان خاطئًا، فأعداد البطاقات المباعة منذ اليوم الأول للإعلان عن المهرجان تخطت ذلك الرقم بمراحل، الأمر الذي قادهم في نهاية الأمر إلى استئجار مزرعة ماكس ياسغور للألبان في بلدة بيثيل، حيث وضعت مكبرات الصوت بين التلال وتم بناء المسرح أسفل التل، وخلفه بركة طينية سيكون لها النصيب الأكبر من الشهرة بعدها.
ثبت موقع المهرجان رغم استياء السكان وحملاتهم العديدة لمقاطعة منتجات ماكس من الألبان والأجبان. وفي صباح الخامس عشر من أغسطس/آب 1969، كان الآلاف من الوافدين المبكرين يدفعون بوابات الدخول ويحطمون الأسوار. عرف منظمو الحفل عندها أنه لن يكون باستطاعتهم السيطرة على الأعداد الهائلة القادمة، لذا قرروا فتح أبواب المهرجان لنصف مليون شخص مجانًا.
توافدت الحشود مشيًا وبالباصات، غير مبالين بهطول الأمطار ووحولة الطرقات، فافترش الحاضرون الأرض ونصبوا الخيام على مدى الأيام الثلاثة وسط المنطقة الريفية غير المجهزة بخدمات الصرف الصحي أو الإسعاف أو الغذاء، مسببين ازدحامًا مروريًا خانقًا في شتى أنحاء المقاطعة وفوضى عارمة دفعت السلطات إلى إعلان حالة الطوارئ طوال فترة المهرجان.
توفي شخصان خلال المهرجان، أحدهما دهس بواسطة جرار أثناء نومه والآخر من جراء جرعة زائدة من المخدرات، وولد طفلان في سيارات عالقة في حركة المرور، كما سُجلت أعداد كبيرة من جرعات المخدرات الزائدة في المستشفيات القريبة، واستهلك الكحول بكميات كبيرة. كل ما سبق أثار حفيظة وسائل الإعلام الرئيسية، فتصدرت عبارات مثل: "كابوس الوحل" و"ثقافة تنتج فوضى هائلة" عناوين الصحف الأميركية مثل "نيويورك تايمز" و"ديلي نيوز" وغيرهما لفترة غير قصيرة.
ورغم هذه الفوضى المتوقعة التي سببتها الأعداد الهائلة وسوء التنظيم، لم تسجل أي حالة ضرب أو عنف. يروي ديفيد كروسبي، وهو أحد مغني المهرجان، عبر الفيلم الوثائقي، أنّه شاهد للمرة الأولى منذ وقت طويل أناساً يتقاسمون الشطائر ويتشاركون عبوات المياه القليلة أصلًا.
كان الشعار الأهم لمنظمي المهرجان هو: "الموسيقى والسلام". أو "مارسوا الحب لا الحرب"؛ مقولة اكتسحت جيل الستينيات آنذاك، خصوصاً موسيقيي المهرجان الذين أبدوا معارضتهم الجذرية لحرب فييتنام، وهو شعور تشاركوه مع الغالبية العظمى من الجمهور الشاب والمتنوع بانتماءاته الفكرية والسياسية.
لاحقًا، سيُستخدم مصطلح Woodstock Nation لوصف ثقافة الشباب المضادة في تلك الفترة، التي نشأت عن عوامل عدة، أهمها معاداة الحرب على خلفية أحداث فييتنام، وظهور التلفزيون وكشفه للوقائع الخفية، وشيوع مفاهيم حركة الهيبيز كالتحرر الجنسي والميل نحو الطبيعة والنفور من الحياة المعاصرة وما تنطوي عليه من عنف يومي، وحركة الحقوق المدنية وتحرر المرأة وحقوق المثليين وحقوق السود، والتوجه الجديد نحو العقاقير المهلوسة والمخدرة وخاصة الماريجوانا والـ LSD، بوصفها محرضًا أساسيًا للإبداع.
أقام العروض كل من جانيس جوبلين، وجوان بايز، وجيفرسون أيربلين، ,Crosby, Stills, Nash & Young، وغيرهم كثر ممن عرفوا بمواقفهم السياسية وباهتمامهم الواضح بالشأن العام، رغم كونهم أحد أبرز مشجعي العقاقير المخدرة. لم يعد مهرجان وودستوك رمزًا للثقافة البديلة وحسب، وإنما فعل سياسي يقوض نظرة الاستخفاف الملقاة على الأجيال الجديدة، فشكل أداء كل من جيمي هندريكس وريتشي هايفينز قفزة كبيرة في تاريخ الموسيقيين الملونين. حضور جوان بايز التي حُبس زوجها في سجن في تكساس لرفضه القتال في فييتنام، ثمّ أداء هندريكس لأغنية Star-Spangled Banner أو النشيد الوطني، وارتجال ريتشي هايفينز وتنويعاته الموسيقية على كلمة "حرية"، وجو ماكدونالد وفرقته المحورية في حركة الاحتجاج السياسي التي حدثت في الساحل الغربي، وغيرهم من الفنانين المسيسين ألهموا آلاف الشباب الحاضرين في المهرجان وقتها.
لم يقتصر الاستعراض على الخشبة فحسب، بل كان للجمهور أداؤهم الخاص الذي لقي شهرة واهتمامًا أكثر من أداء الفنانين أنفسهم. فيكفي أن نضع عبارة "مهرجان وودستوك" في محرك البحث، لنتفاجأ بكمية الصور التي التقطت للجماهير أثناء المهرجان والتي باتت اليوم تشكّل ما يشبع المواقف الأيقونية لتلك الحقبة من التاريح الشعبي الأميركي والعالمي.
اليوم، وبعد مضي أكثر من خمسين عامًا على الحدث، لا يزال وودستوك مادة خصبة للأفلام الوثائقية التي تحاول استذكار الحادثة التاريخية وجمع الوثائق المتوفرة لإكمال القصة غير المنتهية عن الأيام الثلاثة للحب والسلام والموسيقى.