في الأعوام الأخيرة، نُشرت عشرات المقالات والدراسات حول الآثار السلبية للمثالية المفرطة التي يعيشها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. وبات الحديث عن الأمر يتكرر، لدرجة تجعلنا نتساءل إذا ما كانت الحياة الافتراضية مثالية بالفعل؟
ورد في الدراسة التي نشرتها صحيفة ديلي ميل، عام 2020، حول "المثالية المفرطة على مواقع التواصل الاجتماعي" (أجرتها الباحثة إريكا بيلي في جامعة كولومبيا) أن "مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، غالباً ما يعملون كمنسقين افتراضيين لأنفسهم عبر الإنترنت، إذ يعيدون تنظيم أو تحرير المحتوى الذي يقدمونه عن أنفسهم للآخرين". بالتالي، فإن معظم المنشورات وردود الأفعال التي نشاهدها على وسائل التواصل الاجتماعي، هي تصرفات منقحة، تتحكم بها الصورة المثالية للأفراد عن أنفسهم.
لكن، إذا ما سلمنا بهذه الفرضيات والدراسات، فكيف نفسر السلوكيات الجمعية الفظة واللا إنسانية التي نعايشها في مواقع التواصل الاجتماعي، مع كل خبر مأساوي جديد ينتشر، بما فيها أخبار موت المشاهير؟ هل فعلاً يعتقد بعض السوريين أن التفاعل بـ"أضحكني" مع أخبار الموت سلوك طبيعي؟ أسوأ ما في الأمر أن هذا السلوك بات اعتيادياً ومتكرراً بصورة مقلقة، ويمارسه كثيرون بحساباتهم الحقيقية، ما يوحي أن حالة الشماتة القطيعية، التي تسود صفحات السوريين مع كل خبر مأساوي، هي ليست تصرفاً انفعالياً خارجاً عن السيطرة، بل سلوك منقح، بعضهم يتقصدون إظهاره بشكل علني ويتفاخرون به، ليكون جزءاً من هويتهم "المثالية" العلنية في العالم الافتراضي.
لذلك، فإن صفحات السوريين تشهد جدلاً حاداً وانقسامات مع كل خبر مفجع، ليتوزّعوا ما بين شامتين ومتعاطفين محزونين؛ سواء كانت الشخصية الراحلة محسوبة على صف الموالين للنظام السوري، أو محسوبة على المعارضة، فإن الأمر لا يختلف كثيراً. وفي جميع الأحوال، سنجد تعليقات تذكر محاسن الميت وتطيب له الذكرى، وسنجد مقابلها تعليقات تنتقده وتشمت به، وسيحتدم الجدل ما بين الفريقين، لينتقد أحدهما الشماتة بالموتى، والآخر ينتقد حالة التعاطف، وقد يكفّر أو يجرّم من يترحم على الميت.
وفي الغالب، يلعب الموقف السياسي للشخصيات الراحلة دوراً في قلب الأدوار ما بين الشامتين والمتعاطفين، إلا في حالات نادرة جداً، حين يكون فيها الفقيد التزم موقفاً سياسياً محايداً، كما هو الحال مع المخرج الراحل حاتم علي، أو حين تكون للفنان قاعدة جماهيرية لم تكسرها تماماً الانقسامات والاصطفافات السياسية، مثل جورج وسوف، الذي فقد ابنه وديع قبل أيام، إثر تداعيات جراحة تكميم المعدة. ورغم أنّ وسوف معروف بكونه أحد أكثر الفنانين السوريين ولاءً ودعماً لنظام الأسد، إلّا أنّ بعض الناشطين السوريين المعارضين، بادروا بتعزية نجمهم المفضل، وأعربوا عن حزنهم لخسارته. منشورات التعزية هذه، قوبلت بعشرات التفاعلات الغاضبة من قبل ناشطين معارضين متطرفين، قد تكون حجتهم الوحيدة المحقة أنّ الأهواء الشخصية تؤدي إلى ازدواجية بالمعايير، فواجه بعضهم أصحاب منشورات التعزية بمنشوراتهم القديمة التي ينتقدون فيها أنطوانيت نجيب أو زهير رمضان، أو غيرهما من الفنانين الموالين عند رحيلهم.
جورج وسوف مختلف عن البقية، ويمثل حالة خاصة بالنسبة للجمهور السوري، فمحبتهم له لا يحكمها المنطق، وإنما العاطفة والنوستالجيا. كثيرون يفسرون محبتهم لوسوف بأنّ صوته في الصغر كان رائعاً، لكنّهم لم يتخلوا عن محبتهم له حتى بعد أن شهدوا كلّ مراحل تدهور صوته، بل صاروا يتقبلون صوته الخشن المخنوق بحنجرته، ويحبونه أكثر مع مرور الوقت.
لم يتخلوا عن محبته بعد انتشار كل الحكايات التي تخلط بين الواقع والخيال، حول إدمانه للمخدرات وخروجه عن القانون، وقد وصل بعضها إلى حد تصويره كمجرم خطير على المجتمع.
ولم يتخل عنه جمهوره حتى بعد اندلاع الثورة، التي كان لها أثر كبير على شعبية كثير من الفنانين السوريين الذين أعلنوا اصطفافهم إلى جانب نظام الأسد أو الثورة.
فوسوف الذي دعم بشار الأسد ونظامه، ويشاع بأنه تربطه علاقة صداقة متينة بماهر الأسد، لم يتخلّ عنه جمهور الثورة تماماً؛ ربما شهدت العلاقة بينهم وبين نجمهم المفضل فترات متقطعة من الفتور، لكنها كانت دائماً ما تنتهي بترفيع أبو وديع وأغانيه التي يدمنونها فوق الاصطفافات السياسية والقضايا الثورية؛ فهو الصوت العاطفي الغريب المتحشرج، الذي يمثل بمراحل تدهوره مراحل تدهور حياة جيل الثمانينيات والتسعينيات في سورية.
الحالة العاطفية الخاصة التي تربط بين شريحة كبيرة من الجمهور السوري المعارض وجورج وسوف، تدفعهم إلى تغيير سلوكهم الاعتيادي ربما، ليفصلوا معه ما بين الفن والسياسة. هذه الاستثناءات التي يمنحها الجمهور لنجمه المفضل، تستحق إعادة النظر؛ فمن الجيد حقاً أن نشهد حالة التعاطف هذه المتعدية للاصطفافات السياسية، وأن يعمّم الاستثناء الجيد على الحالات المشابهة الأخرى، وأن يكون التعامل مع الفنانين الذين يملكون رأياً سياسياً مغايراً كفنانين، لا كمجرمي حرب، وألا يستمرئ الجمهور حالة الشماتة بهم عندما تحل بهم مصائب مشابهة أو عند رحيلهم؛ حتى وإن كانوا يمانعون فكرة الفصل بين الفن والسياسة.