هيليوبوليس/ ترتبط الأحداث الحقيقية التاريخية للعمل بمجازر 8 مايو/ أيار 1945 (Getty)
17 نوفمبر 2020
+ الخط -

"الفيلم مُستوحى من أحداث حقيقية". مع هذه الكلمات، يظهر أول مشهد من "هيليوبوليس"، أول عمل سينمائي للمخرج التلفزيوني جعفر قاسم. الأحداث الحقيقية تاريخية، ترتبط بمجازر 8 مايو/ أيار 1945، إبّان الاستعمار الفرنسي للجزائر. إنجاز الفيلم حدثٌ، قد يكسر رتابة المشهد السينمائي في الجزائر، في زمن تقشّف الإنتاجات السينمائية الرسمية، وتفشّي كورونا.

حوّل قاسم آخر مشهد في فيلمه إلى ملصق له: صورة مقداد زناتي حاملاً بندقيته على كتفه، في حقل قمح ممتدّ وراء ظهره نحو أفق رمادي، تعلوه طائرات حربية. لوهلة، تبدو الصورة لبطلٍ مُقاومٍ في ميدان الحرب. رجلٌ ذو ملامح واثقة، يشدّ على بندقيته في مواجهة عدوّه المدجّج بالطائرات.

الفيلم عن المقاومة ومواجهة الشرّ، وعن الثورة ضدّ مغتصب. مقداد زناتي مُجاهد مقاوم معروف، لكنْ قد يكون شخصية خيالية، أو جندياً مجهولاً، وربما مثّلت سيرته روح المقاومة الشعبية للاستعمار. وفق الملخَّص، ليس مقداد زناتي مُضطَهَداً من عامّة الشعب، ولا شاباً متحمّساً لأفكار ثورية. إنّه ابن القايد زناتي ("القايد" رجلٌ خاضعٌ للمستعمِر الفرنسي ضدّ أبناء جلدته)، صاحب مزرعة كبيرة، ومُحبّ للحياة الفرنسية، التي يحافظ عليها ويحرص على توريثها لابنه وابنته. صديق الفرنسيين، وربّ عائلة ذات امتيازات كولونيالية واضحة. يعتمر قبّعة كولونيالية، ويرتدي بذلة أنيقة. يحتفظ بأوسمة أجداده "القيّاد"، وبلباس الخدمة الفرنسية، وبمكانة خاصة في صالونات الحياة الفرنسية في هيليوبوليس.

لكنْ، ما الذي يجعل رجلاً بـ"امتيازات" مشبوهة كهذه يتصدّر ملصق أول فيلم لجعفر قاسم، الذي أنتَجته وزارة الثقافة الجزائرية؟ الإجابة لاحقة على الوقوف على جدلية مهمّة، أهملها النقد طويلاً: صورة الخائن أو الخبيث أو العدوّ المحليّ في السينما الجزائرية، الخاصّة بتاريخ الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي.

3 مخرجين و"حرْكي" واحد
عند الحديث عن ملامح شخصية الحرْكي، أو القايد، في "ريبرتوار" السينما الجزائرية، يصعب تجاوز الصورة النمطية التي كرّستها أفلام أيقونية معروفة، استندت في تشكيلها لشخصية القايد الخائن إلى نماذج موثّقة ومتداولة في الأرشيف الجزائري، تُظهر قيّاداً في صورة الحركي، بلباسٍ باذخ مكوّن من "برانيس" بيضاء وحمراء، متوّجة بأوسمة الاعتراف الفرنسي، وعلى رؤوسهم عمامات الاختلاف الطبقي، وعند خروجهم إلى العامّة لا ينزلون عن أحصنتهم.

مَشاهد كهذه عزّزتها السينما الجزائرية بخطاب استعلائي وسلوكٍ استكباريّ، يفرّقه أصحاب هذه الشخصية عن أبناء عرقهم المغلوبين، بينما ينحنون بخنوع مقيت ودونية واضحة أمام السيّد الفرنسي. هذا يُذكِّر بمَشاهد من "وقائع سنوات الجمر" (1974) لمحمد لخضر حامينا، و"بني هندل" أو "المُقتلعون" (1977) لِلَمين مرباح، و"بو عمامة" (1985) لبن عمر بختي: 3 مخرجين، وحركيٌّ خائن واحد.

في هذه الأفلام، يظهر القايد في صورة نمطية، مرتدياً "برنوساً" أبيض وأحمر، بعنجهية سليطة مع أبناء جلدته، ووعيد دائم لمخالفي أوامر "السيّدة فرانسا"، التي "أنعمت على الجزائريين المتوحّشين والأنذال بحضارتها وثقافتها". يشترك خطاب القايد في تلك الأفلام بمصطلحاته وتعابيره: في فيلم حامينا، يتلذّذ القايد بشتم القرويين البائسين، مُسارعاً إلى ترجمة أوامر السلطة الفرنسية بحرص كبير، ولا يُمانع في تعذيب ميلود المجنون وجرّه مُقيّداً بحصانه. هذا موجودٌ في فيلم مرباح، مع توطيد بؤس المُهجّرين المسلوبة أراضيهم، واستعمال قاموس الإهانة نفسه. في فيلم بختي، يزيد القايد عنجهيته بإهانة نساء القبيلة، ومعايرتهنّ بقتل رجالهنّ الذين تطاولوا على الأمّ "فرانسا"، ويصدح: "هذا جزاء اللي يخدع دولتنا، دولة فرانسا المنصورة".

مُؤدّي هذا الدور المركّب والحسّاس في الأفلام الثلاثة رجل واحد: الفنان الجزائري الراحل محمد جديات، المعروف بسيساني (1933 ـ 2003)، الذي "سجنه" صنّاع السينما في الجزائر في دور القايد الحركي، لحدّة ملامحه، ولقدرته على تقمّص الدور. حتى في "الشبكة" (1976) لغوثي بن ددوس، احتُجز سيساني في دور خادم الإقطاعي الجزائري الجديد.
بدأ جديات مسيرته الفنية مُغنّياً (له أسطوانات)، ثم انضمّ إلى "فرقة باشطرزي" للتمثيل المسرحي، قبل أنْ يُصبح أيقونة الخيانة الثورية في الأفلام الجزائرية، مُنهياً حياته الفنية بمشهد كوميدي راسخ في الذائقة العامة، في "التاكسي المخفي" (1989) لبختي، ومُقدِّماً بحرفية شعبيّة فقرة فتيحة الرقّاصة، "رقّاصة العالامات".

سينما ودراما
التحديثات الحية

من نوع آخر
بعيداً عن شخصية القايد، الوارث شرّه وتسلّطه وشكله أباً عن جَدّ، قدّم أحمد عياد، المعروف برويشد (1921 ـ 1999)، شخصية شرّيرٍ جديد في السينما الجزائرية، "خاين" من نوع آخر، لا يرتدي الـ"برنوس" الأحمر، ولا يزيّن صدره بأوسمة المباركة الفرنسية. "خاين لايت"، استطاع ـ بعصاميّته وطموحه الشخصي ـ أنْ يحظى بثقة السيّد الفرنسي، وبأنْ يكون لسانه العربي، يخاطب به رعاعاً جزائريين، وسوطه يُرعب المخالفين. دوره في "الأفيون والعصا" (1969) لأحمد راشدي، أفضل مثل على هذه الشخصية المتداخلة، التي استطاع تفكيكها بعبقرية نادرة، تبلغ ذروتها في استشهاد علي (سيد علي كويرات)، وارتفاع الزغاريد والتكبيرات. في هذا المشهد، باذخ القيمة، يظهر الطيّب رويشد مرتدياً "برنوسه" الأبيض الرثّ، ومُعتمراً قبّعة قشّ، وعلى لسانه تكبيرات خجولة، تُذكِّره بأنّه "جزايري خاين"، حوّله العوز والحاجة من قرويّ بسيط إلى عميل مكروه، صبّ عُقده على أبناء طينته، في قريته "تالة".

ما الذي أراد أحمد راشدي إظهاره في هذا المشهد؟ أيعود الخائن إلى أصله الطيّب؟ هذا يُذكّر بسؤال البداية: ما الذي يجعل رجلاً بامتيازات "قايد" خائن بطلاً على ملصق؟
أولاً، هناك تحفّظ على مفردة "خاين"، وتركيز على مفردة "قايد". في "هيليوبوليس"، المسار تصاعديّ لسيرة عائلة زناتي الجزائرية، وارثةً مكانة رفيعة ومزرعة كبيرة في مدينة هيليوبوليس بـ"قالمة" (شرقيّ الجزائر). لا يزال السيد مقداد زناتي (عزيز بوكروني) قادراً على مجاراة الـ"كولون" ومزاحمتهم في تجارة القمح، مُحتفظاً بمكانة مبجّلة في المجتمع الفرنسي. عودة ابنه محفوظ من الجزائر العاصمة، بعد رفض تسجيله في تخصّص علمي جامعي، بحجّة أنّه جزائري، شكّلت أول صفعة لمقداد، المتصالح مع هويته الفرنسية الجديدة، التي لم تتصالح مع أصله بعد.

لاحقاً، يصطدم مقداد بنشاط ابنه السياسي مع المتحمّسين لفكر فرحات عباس، ودعوات التحرّر، فتحدث قطيعة بينهما. تتعزّز القطيعة مع أحداث الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على فرنسا الاستعمارية، لكنّها (القطيعة) مدعومة بخوف مقداد على مصير ابنه. يحاول الأب الصارم الحفاظ على مصالحه، فيُهادن "السيّدة فرانسا" على حساب مطاوعة ابنه المتمرّد، لكنّ الشرخ بين عائلة القايد والسلطة الفرنسية واقعٌ مُعزّزٌ بِغِلّ الـ"كولون" وسخطهم على زناتي، الذي لم يقدّر شرف الانتماء إلى الحضن الفرنسي.

سينما ودراما
التحديثات الحية

قصص وأحداث
إلى ذلك، تتداخل قصص أخرى عن بيئة هيليوبوليس قبل أحداث 8 مايو/ أيار 1945. في سباق الخيل، يفوز العربي بشير (مراد أوجيت) على فرسان الـ"كولون"؛ حبّ بشير الصامت لنجمة (سهيلة معلّم)، ابنة مقداد الزناتي، وتقلّبها بين هويتها الجزائرية الأصيلة ومكانتها الفرنسية المكتسبة، وبين طاعتها لوالدها وخوفها على شقيقها؛ تعاطف الـ"كولون" رولان مع صديق الطفولة مقداد؛ صراع ابن رولان مع صديق الطفولة ابن مقداد؛ جدل السياسة بين شباب الحركة الوطنية، وحماستهم للانعتاق. في هذا، يحاول مقداد زناتي الحفاظ على إرث عائلته، المتصالح مع الوجود الفرنسي، والمنسجم مع الراية الفرنسية. لكنّ قدر هيليوبوليس سدّد لمقداد ابن القايد صفعة أكبر، إذْ يقع ابنه في أسر التصفية العرقية، بعد 8 مايو/ أيار 1945، ويُحاكم صورياً مع زملائه في النضال، ويُهيَّأون للإعدام رمياً بالرصاص. يحمل الأب مقداد "برنوسه" الأبيض وأوسمة صدر أبيه القايد، ويهرع لإنقاذ ابنه محفوظ. يركع أمام الضابط الفرنسي، باكياً: "أنا كلب"، ويصيح: "نحن كلاب". يستعطف الضابط، ويتذلّل له لعتق ابنه، لكنّ الضابط يأمر بتنفيذ الإعدام. يسقط محفوظ ومن معه، وعلى ألسنتهم صرخات المقاومة. رغم التذلّل، يموت محفوظ.

يشرع الـ"كولون" في حملة صيد بشري. إنّها التصفية في "هيليوبوليس". يُطارد الـ"كولون" جيرفي غريمَه في التجارة والهوية مقداد زناتي، الذي يبتعد عن هيليوبوليس مع ابنته ومن لجأ إليه. في طريق الهجرة، لا تفارقه صورة ابنه المغدور. يتوقّف، ويشدّ على بندقيته، ويعود للمواجهة. إنّها صورة ملصق الفيلم، وبداية قصة أخرى، قد يتحوّل فيها "قايد الأمس" إلى "ثائر اليوم".

يصعب تجاوز الصورة النمطية لـ "الخائن" التي كرّستها الأفلام 


نهاية مختلفة لقايد ابن قايد، حظي بها الممثل عزيز بوكروني، مؤدّي دور مقداد زناتي في "هيليوبوليس"، على عكس نهاية الممثل سيساني، الذي بقي "قايداً خائناً" في الذاكرة الجماعية. أما رويشد، فاستطاع بحِرَفيّته أنْ يتحوّل من "خاين" في "تالة" إلى "مُجاهد بالصدفة" في "هروب حسّان طيرو" (1974) لمصطفى بديع. نجح بوكروني في الانتقال من شخصية القايد المُستكين للأمر الواقع، إلى شخصية المقاوم.

لكنْ، كيف تُقرأ هذه المقاومة المفترضة؟ أهي ردة فعل أب مفجوع في ابنه، أم صحوة ضمير متأخّرة، أم حالة لا تحتاج إلى تبرير في خضمّ حالات كثيرة، دفعت آلاف الجزائريين إلى الالتحاق بالثورة، من دون اعتبار لماضيهم المشبوه؟
ردّاً على سؤال عمّا إذا ستُثير شخصية القايد زناتي في "هيليوبوليس" كلاماً عن مصالحة فنيّة مع "تاريخنا المُلغّم"، حاول جعفر قاسم ألّا يتوغّل في شرك السؤال، مذكّراً بمصير "الوهراني" (2014) لإلياس سالم، المتّهم بإسقاط صورة الرجل الثوري الجزائري من صفتها الملائكية.

"هيليوبوليس" مؤجّل عرضه الجماهيري، بسبب كورونا، ما يمنح جعفر قاسم وقتاً للتفكير في إجابة مفصّلة ومناسبة عن سؤال جماهيري محتمل، وعن اتّهام لاحق (ربما) بـ"منح أصحاب ماضٍ مشبوه سمة الأبطال". ولقناعةٍ بقدرة الفن على تجاوز هذه الأسئلة الملغمة، وعدم الانصياع للأحكام الشعبوية الجاهزة، لا بُدّ من التذكير بأنّ الشهيدة البطلة حسيبة بن بوعلي ابنة سي أحمد بقربوصة، "قايد الأصنام"، وبالعلّامة ابن باديس ابن باش آغا، وبثورة البوازيد في "بسكرة"، التي أطلقها القايد عياش جباري، شيخ قبيلة البوازيد، وبمقاومة الأمير عبد القادر، المنتعشة بمبايعة 25 قايداً له تحت شجرة في معسكر.

"هيليوبوليس" مُحبك تقنياً. لا تسمعُ فيه طلقات رصاص كثيرة، أو ألعاب نارية صاخبة. فيلمٌ يشدّ إلى مشاهدته، الجدير بها. حضور عزيز بوكروني وفوضيل عسّول ومراد أوجيت محبَّب. خلال مشاهدته، يُطرح سؤال: هل تصلح سهيلة معلّم للسينما؟ الفيلم يعزّز قيمة جعفر قاسم وكفاءته الفنيّة، في فترة حجر فني قبل نحو ثلث قرن على تفشّي كورونا.

المساهمون