- اعتزال عادل إمام أثار موجة من التأمل في إسهاماته الفنية والثقافية، حيث عبر العديد من الفنانين والجمهور عن حبهم وتقديرهم له، مشيرين إلى الأثر العميق الذي تركه في الذاكرة الثقافية العربية.
- اعتزاله يُعتبر بداية جديدة لتقييم إسهاماته الفنية والإنسانية، مؤكداً على أن أعماله تبقى حية تُلهم الأجيال القادمة، ويظل رمزاً للفن الذي يتحدى الصعاب ويُعبر عن القضايا الجوهرية بروح الفكاهة والجدية.
أثار خبر اعتزال النجم والممثل المصري عادل إمام (1940)، على لسان نجله رامي، جدلاً كبيراً بين عشّاقه وأعدائه، رغم أنّ الخبر يظلّ، بمُجمله، عادياً، ولا يحتاج إلى كلّ ذلك النقد والصراخ والشتائم، التي تلقّاها الفنان من بعض أبناء وطنه، على خلفية مَشاهد جريئة في تاريخ الشاشة المصرية، الكبيرة والصغيرة.
مردّ هذا غياب ثقافة الاعتراف في عالمٍ عربيّ متصدّع. فرغم مظاهر حداثةٍ، يتشدّق بها بين فينةٍ وأخرى، لا يزال سلوك العالم العربي وأفكاره ومواقفه أكثر تقليدية وسلفية. السياسة حوّلت الفن إلى جحيمٍ مُخيف، بعد أنْ أصبحت تتدخّل في السينما والتلفزيون، وتوجّههما إلى آفاقٍ برغماتية، تخدم أجنداتها السياسية الواهية. والمجتمع جزءٌ من هذه اللعبة القذرة، إذْ يُسحَر بالمسلسلات الدينية والمواعظ الأخلاقية، فيجد فنانون، بحجم عادل إمام، أنفسهم خارجه. النقد الذي تعرّض له الرجل نابعٌ من حقدٍ دفينٍ وقديم، طالما حرّكته أحزاب سياسية متديّنة في المجتمع المصري.
أحكامٌ وحملات
الغريب أنّه، في لحظةٍ مؤلمةٍ كهذه، يستحضر المصريون والعرب عامة "خيبات" الفنان، ويُعيدون، بسبب حقدهم القديم له، إنتاج سرديّة نقدية لاذعة حوله، وحول مَشاهده الجنسية المزعومة. يواجه المصريون فن عادل إمام بالدين غالباً، ويخضِعون كلّ ممارساته الفنية إلى سُلطة أخلاقية، تتحكّم في أفلامه ومسرحياته. هذه السُلطة تُوجَّه غالباً من أحزابٍ سياسية، ترى في هذا النوع من الفن وسيلةً لتكريس انحلال الأخلاق في المجتمع، وتشجيعا على الرذيلة و"الفن الساقط".
أكبر مواجهة عاشها الفنان، في حياته المهنية، كانت مع زعماء التيار الأصولي. فمع كلّ فيلم سينمائي جديدٍ له، تحشد وجوه محسوبة على هذا التيار كلّ وسائلها لترويج صورة سيئة عن العمل، في فترة تنامي شعبيته، في مصر والعالم العربي. لكنْ، مع الطفرة التكنولوجية، التي بدأت تغزو هذا العالم العربي، بعد تسجيل عددٍ من مسرحياته وبثّها على شاشات تلفزيونية عربية، أصبح إمام أسطورة لا تشيخ في قلوب جماهيره.
واجه عادل إمام الأصوليين بجرعات متزايدة من الضرب الرمزي، عبر أفلام تنتقد الإرهاب والأصولية، وتُعرّي المَكبوت الذي تتستّر عليه الأنظمة، في اجتماع مصري معطوب. ويُعتَبر "الإرهاب والكباب" (1992)، لشريف عرفه، مثلاً على مواجهة حقيقية، بين الفنان وسدنة تقليد بدعم الأجهزة الأمنية للدولة البوليسية، إذْ يمتزج فيه نوعٌ من الدراما الفنية والأداء الكوميدي الساخر، رغم غلبة هذا الأخير عليه، إذْ تعامل معه عرفة باعتباره وسيلة تعبير سينمائي، لتفكيك ميكانيزمات التشدّد الديني في البلد، وتزمّته. والفيلم محاولة جادّة من المخرج والممثل لتسليط الضوء على ظاهرة الإرهاب، المُقتحِمة بقوّة المجتمع العربي.
هذا الفيلم، ولاحقاً "الإرهابي" (1994) لنادر جلال، كافيان لتحويل حياته إلى جحيمٍ مع الأصوليين في السياسة والمجتمع والإعلام والفن. لم ينكسر الفنان أمام تهديدات طاولت جسده أكثر من مرّة، بل ظلّ صخرة واقفة في وجه العاصفة.
تحوّلات كثيرة عرفها الفن المصري، بات معها إمام أسطورة، في زمن يُنتِج العالم العربي خلاله تفاهةً متأنّقة ومتعفّنة برذاذ عطرٍ رديء، لنْ تُضاهي قوّة أداء الممثل وسحره.
لكنْ، في مقابل هذا التدريب الإنشائي النقدي اللاذع، الذي شغل الساحة المصرية، هناك فريقٌ آخر، اعتبر أنّ لحظة اعتزال الفنان مؤثّرة، تستحقّ وقفة تأمّل في سيرة رجلٍ، صنع أفراح أجيال بكاملها. كما نشر مخرجون وممثلون صُوَرهم معه، في أفلامٍ ومسلسلات ومسرحيات ومهرجانات. تدويناتٌ كثيرة في العالم العربي أظهرت مدى حبّهم له، من خلال بثّ مقتطفات كوميدية من أفلام، أو عبر ما شاهدوه له من أعمالٍ على الشاشتين، أو ما تعلّموه إلى جانبه في المسارح. لهذا، انضمّ معظم الفنانين المصريين إلى شريحة كبيرة من الناس، وكتبوا جملاً وتعليقات عن اعتزاله، في وقتِ تدهور الشاشة المصرية، وتحوّل الأعمال الدرامية إلى وسيلةٍ لكسب المال، وتضليل المُشاهد بكليشيهات ومَشاهد مُرتجلة.
يغلب على هذه الفئة مخرجو الدراما، الذين اشتهروا باشتغالهم مع إمام، ومحاولة استغلال شعبيته في أعمالهم المتصدّعة، رغم أداءٍ باهتٍ لصاحب "طيور الظلام" في أعماله الفنّية الأخيرة. هذا لا يُظهر ضعفه، بل يكشف سطحية النصوص الدرامية المُقدَّمة إليه. ورغم النجاحات الكبيرة التي تحظى بها هذه الأعمال الدرامية، على مُستوى نسب المُشَاهَدة، فإنّ آراء النقاد في مصر وخارجها تعكس بعضَ عطبِ مهنةٍ، بدأت تُصيب المَشهد المصري حصراً.
المثير للانتباه في الفئة المُدافعة عن أعماله، أنّ معظمها (أي الفئة المُدافعة) موجودة في دول عربية أخرى. إذْ تبدو كتاباتهم مُحايدة في النظر إلى "ظاهرة عادل إمام"، وارتكز أغلبها على مسرحيات وأفلام ومسلسلات، من دون الاقتراب من السياسة والدين والأخلاق. الرغبة في الاستمتاع بتراث إمام تبدو جليّة في كتاباتهم، لأنّ أغلبها تناول نمط الكوميديا الساخرة التي تميّز بها الممثل، من دون غيره في مصر، رغم أنّ مشاهد درامية، في أفلامٍ سينمائية كثيرة له، تتفوّق على المشاهد الهزلية، لعمقها وأصالتها وتجذّرها في بيئةٍ وأحوال وتاريخ ومجتمعٍ وذاكرة.
تستحيل الكتابة عن فنان كعادل إمام، لأنّ أيّ كتابة ستبدو هشّة ومُضحكة ومُرتبكة أمام رجلٍ، سَحَر العالم بضحكته ومَواقفه ونضالاته. وإذا كانت هناك مزيّة فنّية له، منذ أعماله الأولى، فإنّها تتمثّل في براعته في الارتجال، الذي يُعدّ هو رائداً له، من دون منازع. فأغلب المخرجين المسرحيين يُحبّون العمل معه، لا لأنّه يُجيد حفظ أدواره وأداءها فقط، بل بسبب قُدرته على نسيان الدور، والحفاظ على ملامحه، ما يحوِّل الأداء إلى امتحان بصريّ مباشر على الخشبة، وأمام الجمهور. أدوارٌ مسرحية تُظهِر براعته في هذا الفن (الارتجال)، ما يُربك الممثلين والممثلات معه، إلى درجةٍ دأب فيها الجمهور المصري على "ألاعيبه"، المُدهشة في تفكيرها، والخلاّق في أدائه إياها، فيصبح ارتباكُ الممثلين مادة ضحك وسخرية. بهذه الطريقة، قدّم أدواره، ونسجها نسجاً أصيلاً في قلوب عشّاقه.
هذا الارتجال جعله يرسم للأعمال آفاقاً جديدة على مُستوى التخييل، إذْ يُصبح العمل مختبراً بصرياً قوياً لتكثيف القول والانفتاح، بقوّة، على الواقع والجمهور. الارتجال صعبٌ، لا يأتي إلاّ مع التجربة والغوص عميقاً في سيكولوجية الشخصية، ومع ذلك يظلّ مانعاً مُتمنّعاً عن التجلّي، والظهور في شخصية المُرتجل. لكنْ، في سيرة إمام، يبدو الارتجال علامة على تجربة تُحاول أنْ تُقيِّم مزج الفن بسيرة الحياة. الارتجال في مسرحياته شرّ لا بُدّ منه، فَبِه تنطبع التجربة، ويُرسَم لها في البعيد أفراح ومسرّات.
لذلك، الممثل أكبر من أيّ جدلٍ يحدث الآن في مصر وخارجها. إنّه أيقونة عصره، وممثّل لن يُكرّره الزمن الرديء يوماً. فممثل "عفريت مراتي" (1968)، لفطين عبد الوهاب، أدّى دوراً كبيراً في تاريخ الشاشة المصرية، عندما لم تكن بلدان عدّة تعرف شيئاً عن السينما المصرية.
يُسجّل نقاد عرب مدى تراجع عادل إمام، بدءاً من نهاية تسعينيات القرن الـ20، الذي (القرن الـ20) يبدو كأنّه أخذ معه كلّ مباهج الشاشة المصرية. إذْ بدأت تُنجز أعمال هشّة ومُرتبكة، كتابة وإخراجاً وتصويراً. فالغالب عليها أسلوب كوميدي هزلي (ليس سخرية)، مُكرّر في أكثر من عملٍ. تجربة إمام نفسها خضعت لسُلطة الترفيهيّ، الذي حوّل الفن إلى وسيطٍ مُخصّص للترفيه والاستهلاك. فبدل أنْ يُساهم المال ووسائل الإنتاج الحديثة، وظهور نجوم جدد، في تثمين التقاليد الكوميدية الأصيلة في الفن المصري، تحوّل المال السائب إلى ذريعة لتكريس التفاهة والابتذال. لم يُؤثّر هذا الارتباك على تجربته، لأنّ صورته تسبقه في ذهن المُشاهِد. إنّها مرحلة رديئة في تاريخ الشاشة المصرية، خاصة بعد دخول فنانين لا يملكون مواهب وأفكاراً قادرة على إخراج الفن من حالته هذه. بل زادت هذه الوجوه الشابّة في تردّي الفن المصري والدخول إلى السراديب المُظلمة والباردة في ليل التاريخ.
اعتزال عادل إمام مجرّد "مزحة"، ما دام الناس يُحبّون أفلامه ومسلسلاته، ويعيدون مُشاهدتها عبر روابط ومنصّات. فالفنان، رغم أنّه يعتزل حقيقة، يُبقيه ذيوع أعماله وانتشارها في الذاكرة والوجدان.
فهل حقاً يعتزل الفنان في حياته، أم أنّ اعتزاله بداية حياةٍ ثانية، تُحاول أعماله وسيرته وصُوَره ومواقفه رسم صورة جديدة لها في وجدان كلّ من أحبّه، ممثلاً وفناناً وإنساناً؟