في تقييم أوليّ لأثر جائحة كورونا يتبيّن أن الإنتاج الثقافي التقليدي هو واحد من أكثر القطاعات تضرراً. فالمكتبات والسينمات والمسارح كلها مغلقة منعاً للاكتظاظ والتجمع. في الوقت نفسه، ازدهرت منصات البيع والنشر الرقميّ، تلك التي تتيح المشاهدة أو القراءة من المنزل، من دون الحاجة إلى مغادرته إطلاقاً، وكأن الكسل تحول إلى نموذج اقتصادي لا بد من التأقلم معه و"استغلاله" في ظل الظروف القائمة.
بالعودة إلى منصات النشر الرقمية السينمائيّة، تلك التي تتيح للمستخدمين فرادى مشاهدة ما يريدونه، فإن الجدل حولها مرتبط بـ"سينمائيتها" وقدرتها على الإحاطة بكل عملية العرض، من ألوان ونظام صوت وحجم شاشة. لكن هذه المنصات أثبتت قدرتها على منافسة السينمات التقليدية في المهرجانات العالميّة، والآن أصبحت منافساً قوياً لصالات السينما الفارغة أو التي يحدد فيها عدد الحضور، خصوصاً في ظل فقدان الصالات لحصرية العرض الأول.
هذه المنافسة التي أصبحت جادة أتت نتيجة قرار شركة "وارنر براذرز" العريقة بث أفلامها على منصة "إتش بي أو ماكس" HBO Max بالتزامن مع عرضها الأول في صالات السينما. وتزامن هذا القرار مع إعلان الشركة موعد عرض فيلم "ووندر وومن" الذي سيكون متاحاً على "إتش بي أو ماكس" بالتزامن مع افتتاحه في دور السينما.
والمثير للاهتمام أن المشاهد لن يدفع أجوراً إضافية للمشاهدة، وستتاح له كل إنتاجات عام 2021، من دون رسوم إضافيّة، أي 17 فيلماً جديداً منها "توم وجيري"، و"غودزيلا ضد كونغ"، و"مورتال كومبات".
لا يمكن النظر إلى القرار السابق كاستسلام دور السينما، بل أتى انصياعاً للأمر الواقع. فالتجمع في ظل إجراءات الوقاية الصحية أمر خطير، وبغض النظر عن الانتقادات الموجهة لإجراءات الإغلاق والتباعد، فإن صناعة الترفيه تحاول الحفاظ على وجودها.
لكن العامل الأهم والتأثير الأكبر لهذه الجائحة هو فقدان دور العرض لأثرها السياسي/الاجتماعي، فطقس المشاهدة وترك المنزل والاجتماع في الفضاء العام للمشاهدة سيتلاشى، كل في سريره أو على أريكته يشاهد وحيداً أو مع مجموعة أصدقاء.
حدث "افتتاح" فيلم سيتلاشى أيضاً، النزهات والمخططات المرافقة لمشاهدة إنتاج سينمائي سواء قبله أو بعده ستتلاشى كذلك، ما يعني أن مفهوم الحلم المرتبط بطقس المشاهدة أيضاً سيختفي، السينما كنشاط اجتماعي ستتحول إلى مُنتج نستهلكه فرادى، كالكتاب، كل منا يقرأه وحيداً، ويشارك انطباعاته مع الآخرين "لاحقاً" لا أثناء المشاهدة نفسها كما في السينما حيث الضحك والتأوه والدموع.
لا نحاول هنا أن نعدد سلبيات المشاهدة في المنزل، لكن من وجهة نظر أصحاب الصالات، شركات الإنتاج ضحت بنسبة من أرباح دور العرض بقيامها برفع الأشرطة الجديدة على منصات البث.
فرئيس سلسلة سينمات "إيه أم سي" AMC في الولايات المتحدة آدام آيرون علق منزعجاً من هذه الخطوة، قائلاً إن صالاته وافقت على عرض فيلم "ووندر وومن" فقط، لا كل أفلام "وارنر براذرز"، خصوصاً مع اقتراب استخدام لقاح للوباء واستعادة صالات السينما لعافيتها.
يقول البعض أيضاً إن خلفيات قرار شركة الإنتاج الشهيرة تنقسم إلى جزأين: الأول هو محاولة تفادي إطلاق أي فيلم خلال الجائحة، بعد ما حصل مع فيلم كريستوفر نولان الأخير "تينيت" Tenent الذي خسر ملايين الدولارات لأن الجمهور لم يقبل عليه سوى في الأيام الأولى.
العامل الثاني هو الرغبة في زيادة عدد المشتركين في HBO Max، التابعة لـ"وارنر براذرز"، فالمنصة لم تحقق بعد النجاح المطلوب ولم تنافس "نتفليكس" أو "أمازون برايم".
حتى الساعة توجّه السينمات انتقادات عدة لعملاق الإنتاج، خصوصاً أن الحل المتفق عليه سابقاً كان إعطاء حصرية العرض للصالات، قبل أن يوزّع الفيلم عبر وسائط مختلفة كمنصات النشر والأقراص الرقميّة. وهو ما قامت به استديوهات "يونيفيرسال" سابقاً. لكن التخوّف حالياً هو أن يصبح هذا الوضع الاستثنائي عرفاً عاماً للعمل والعرض، بعد انتهاء جائحة كورونا.