في ماضٍ ليس ببعيد، اصطلح الغرب عبارة "سأنام اليوم أقلّ غباءً"، كلّما اصطدموا بمعلومة مفيدة إمّا تضيف على معرفتهم أو تصحّح معلومة أو صورة نمطية شكّلوها.
أفكّر بهذا المصطلح وأنا أقرأ خبراً عن قطة وُجدت على شجرة في حيٍ أوكراني قصفته الطائرات الروسية، يليه خبرٌ عن جدلٍ أثير حول لا شيء يُذكر لكنّ الجدل ثار بحسب الخبر، وهكذا دواليك. خبر عن حيوانٍ ما ثم خبر عن جدلٍ ما. حيوانٌ ثمّ جدل. كيف أنام أقلّ غباءً مع فيضان الحيوانات والجدالات هذه؟
أترك مواقع التواصل وأفتح الجريدة، بنسختها الإلكترونية. حتّى الصحيفة تتغيّر قليلاً. ما زالت تحوي جرعة مركّزة من الأخبار المفيدة، لكن باتت تفتح بابها قليلاً للتفاصيل غير المهمّة، أو التفاصيل التي تقنعنا الخوارزميات أنّها تجذب انتباه القراء، وترفع التفاعل. حتّى الأخبار المفيدة باتت تخضع لقوالب خوارزمية: قصة شخصية تستثير العواطف، ثم الخبر، ثم مزيد من القصة الشخصية. قرّعونا بمبدأ التفكير خارج الصندوق لكنّنا فجأة بتنا في صندوق واحد. أو ربما لطالما كنّا في صناديق معلّبة، لكن تغيّر الصندوق عليّ.
بدأت موضة مواكبة الحدث تفصيلاً تفصيلاً، ونقطةً نقطةً، مع القنوات الإخبارية 24 ساعة. ثم انتقلت مع مواقع التواصل الاجتماعي إلى مستوى أدقّ تفصيلاً، شخصيةً شخصيةً، حتّى الوصول إلى القطط في الشارع. كانت كاميرا الأخبار تغطّي المناطق الساخنة، فأتت كاميرا المواطن العادي من عين المكان لتغطّي الساخن والبارد. ثم انساقت منصات الأخبار وراء هذه الكاميرا المجانية، المنتشرة أكثر من قدرة أضخم الشبكات الإخبارية، الأسرع من قلب الحدث، والأقرب لأهل الحدث، والتي تعفيها من تعقيدات لوجستية وأمنية ومادية مثل السفر والوصول إلى عين المكان.
خطوة تجارية ذكية جداً. توفيرٌ مادي ومعنوي، وانتشار في نفس الوقت، وسرعة خيالية في الوصول إلى قلب الحدث. لكن، كيف غيّرت استهلاكنا للأخبار وتفاعلنا معها؟ لماذا لم يحتج جيل الستينيات في أميركا إلى معرفة أيّ حيّ من فيتنام قُصف وكم امرأة حاملاً أكملت ولادتها في الملجأ، لينزلوا إلى الشارع ليطالبوا بوقفها؟ لماذا كانت تنزل المظاهرات عبر المدن العربية نصرةً للقدس عندما كانت الاقتحامات خبراً من 5 دقائق في أفضل حالاته في نشرة أخبارٍ مسائية؟ ولماذا لم نعد ننزل إلى الشارع رغم متابعتنا للناشطين عبر منصات التواصل، وعدم نومنا طوال الليل ونحن ننتقل من فيديو لبث مباشر من داخل الأقصى؟ نحن نعرف أكثر، هذا مؤكّد. لكن هل نتحرّك بقدر هذه المعرفة؟
لن أدّعي أنّني أملك دراسةً علمية تؤكّد العجز الذي نغرق فيه. رغم أنّني ذهلت من كمّ دراسات السلوكيات الاجتماعية التي تؤكّد أنّنا فقدنا حماسنا للأشياء، وأنّ انتباهنا انخفض كثيراً ليصبح بمعدل ثوانٍ قليلة. لن أذكر الدراسات لأنّها هي أيضاً تغرقنا. الدراسة ونقيضها. نحن في زمن وجهات النظر والزوايا الضيقة وشخصنة النظرة للأمور. العلم بات موضع شكّ. والمبدأ بات موضع شكّ. والأخلاق باتت معضلة تثير الجدل.
ماذا يفعل بنا كلّ هذا الشكّ؟ من الجيّد أن ننسف المسلّمات لنعيد بناءها من جديد، نفنّد ما لا يستقيم منها، ونطوّر ما يستقيم. لكنّنا بتنا ننسف دون أن نبني أو نطوّر شيئاً. ننسف مؤسسات علمية عريقة بتغريدة من مليونير تويتري. والمليونير التويتري هو ذلك الذي يتابعه الملايين، ولا يسأله أيّ منهم عن مؤهلاته العلمية التي تجعله مرجعاً لهم في الأحكام الحاسمة التي يصدرها يميناً ويساراً.
ثم ترى مؤسساتٍ إعلاميةً عريقة تكرّر تغريدة المليونير التويتري دون أن تبذل جهداً صحافياً لتحليلها وتفنيدها، فقط هدفها مواكبة هذا الحدث الافتراضي: مليونير تويتري يعاني من الملل قرّر أن يفتي بأي شيء عن أيّ شيء، مفترضةً أنّها أقرب إلى الجمهور واهتماماته عندما تنساق خلف أهوائه الاعتباطية. متناسيةً أنّ الجماهير أيّام الرومان كانت تصفّق للأسود وهي تأكل المحكومين بمصارعة الوحوش.
نحن في زمنٍ الضجيج الأعظم. حيث يؤمن أيّ كان أنّه من حقّه أن يقول للعالم أجمعه شيئاً. أيّ شيء. صوت مضغه لخيارة. ضحكته الهستيرية أمام كلبٍ يغرق. نواحه أمام فنّانه المفضّل. الصمت وهو يصيد سمكة. خوفه وهو يلاعب دبّاً اختاره حيواناً أليفاً ليحصد آلاف المشاهدات. الإنترنت مليءٌ باللاشيء المفيد، يزاحم كلّ ما هو مفيد وذو قيمة. ويفوز عليه.
فكيف نحلم بأن ننام أقلّ غباءً؟