بعد استحواذ الرجل الأكثر ثراء في العالم، إيلون ماسك على "تويتر"، انسحب كتّاب وفنانون وصحافيون ومشاهير أجانب وعرب من المنصة، إذ تخوفوا من رؤيته لتخفيف الإشراف على المحتوى وفرض الرسوم على علامة التوثيق. الفوضى التي تتخبط فيها "تويتر" انسحبت إلى "فيسبوك"، بعدما قرر مؤسسها ورئيسها التنفيذي، مارك زوكربيرغ، تسريح 11 ألف موظف، بينهم مشرفين على المحتوى، وذلك لتوفير النفقات والتوجه أكثر نحو الخدمات التجارية للحفاظ على حصته الكبيرة من الأرباح السنوية.
هذه التطورات دفعت بعض الخبراء إلى التنبؤ بنهاية عصر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد 20 عاماً من هيمنتها. في مقال نشرته مجلة ذي أتلانتيك في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، كشف الأكاديمي الأميركي، إيان بوغوست، عن رؤيته المتشائمة لمستقبل وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً: "فيسبوك إلى تراجع، وتويتر في فوضى، وفي يوم ما ستحل نهاية شبكات التواصل الاجتماعي، وإن كان أمراً غير يسير وليس قريباً". اتهم بوغوست الشركات المالكة للمنصات بأنها ابتعدت عن الهدف الأساسي من وجودها، أي تسهيل التواصل بين الأشخاص، واندفعت نحو الأرباح الإعلانية والمحتوى المدفوع، وخلقت ظاهرة اقتصاد المؤثرين (influencers)، وجعلت مستخدميها رعاة للمنتجات، فتحول المحتوى للعيش والتربح.
تتفق هذه النظرة، في بعض تفاصيلها، مع كثير من الأنظمة العربية والنخبة المحافظة التي تعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت انفلاتاً أخلاقياً، أدى في نهاية المطاف إلى تأجيج الاحتجاجات والثورات في العالم العربي، مستشهدين بما أحدثته من تحولات أشعلتها الأصوات الغاضبة على الإنترنت التي خرجت إلى الشوارع، عندما حالت السلطة دون وجود وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الاتصال، كما حدث في مصر، يناير/كانون الثاني 2011.
تتستر الأنظمة الاستبدادية عادة وراء ادعاء "الحفاظ على القيم الاجتماعية والسلم الاجتماعي"، للقبض على أصحاب الرأي من الصحافيين والأكاديميين والناشطين السياسيين، وتصدر القوانين المقيدة لحرية التعبير وتداول المعلومات، وتحيل المخالفين إلى السجون بالآلاف، كما في مصر والجزائر والمغرب والسودان، وغيرها.
أظهر استطلاع نشرته منصة داتاريبورتال، أجري على مستخدمي الإنترنت حول العالم الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و64 عاماً، أن السبب الرئيسي لاستخدام وسائل التواصل هو البقاء على اتصال مع العائلة والأصدقاء (48.6 في المائة)، تليه أسباب بينها ملء الفراغ وقراءة الأخبار والاطلاع على المحتوى الترفيهي والتبضع ومتابعة المشاهير. وتوقعت "توكووكر"، في تقريرها لعام 2021، أن تواصل منصات التواصل الرائدة تشكيل المشهد العالمي وجذب انتباه المستخدمين، وأن تتمتع أفضل العلامات التجارية بالقدرات والتكنولوجيا اللازمة للحفاظ على هيمنتها والتكيف بسرعة مع الاتجاهات المتغيرة، وإشراك الجماهير الواعية اجتماعياً، ووقف انتشار المعلومات المضللة. ووفقاً لشركة الاستطلاعات ستاتيستا، فإن عدد مستخدمي منصات التواصل سيرتفع إلى 4.41 مليارات عام 2025.
يستخدم 274 مليون عربي "فيسبوك"، 40 مليوناً منهم في مصر، وينشط نحو 30 مليون عربي على "تويتر"، 5 ملايين منهم في مصر و15 مليون من السعودية و2.5 مليون في الإمارات و1.5 الكويت. يأتي العرب كثاني أعلى نسبة عالمياً استخداماً لـ"يوتيوب"، في مقدمتهم السعوديون والمصريون. يستخدم أكثر من 20 مليون مصري "تيك توك"، ويتجاوز عدد السعوديين الذين يستخدمون المنصة نفسها 9 ملايين. تأتي هذه الإحصاءات في ظل انتشار للمحتوى المدعوم من الأنظمة السياسية، وكتائب إلكترونية تستهدف المعارضين على وسائل التواصل.
يرفض الرئيس السابق لمجلس إدارة صحيفة المصري اليوم والناشط السياسي، هشام قاسم، التسليم باقتراب نهاية عصر وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول في حديث لـ"العربي الجديد" إنها "أصبحت نوعاً من الإعلام الاجتماعي الذي وجد ليبقى". يرى قاسم أن العثرات التي تواجه بعض المنصات الكبرى حالياً "أمر طبيعي، فليس بالضرورة أن يظل موقع فيسبوك موجوداً بعد 5 سنوات، أو منصة تويتر، ولكن سيظل الإعلام الاجتماعي قائما بشكل أو بآخر، لأنه مصمم بطريقة تفصل بينه وبين الإعلام المهني الذي يعتمد على قواعد عملية وفنية في إدارة الصحف وأجهزة الإعلام". يدلل رؤيته بقدرة الناشطين السياسيين على اختراق المحظورات التي يضعها الإعلام الرسمي والإجراءات الأمنية المشددة، كما حصل أثناء مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ "كوب27" الذي عقد في شرم الشيخ بين 6 و18 نوفمبر الحالي، إذ نُقلت معاناة أصحاب الرأي في السجون وإضراب الناشط علاء عبد الفتاح على الهواء مباشرة لأنحاء العالم، بينما لم يعرف المصريون ما حدث في مؤتمر السكان عام 1995، رغم تبعية الحدثين للأمم المتحدة.
يقر قاسم بقدرة الأنظمة الاستبدادية على التشويش على الناشطين على شبكات التواصل، ولكن هذه القدرة "محدودة". ويضيف أن الإعلام البديل في مرحلة نشأة وتطور، ومن الصعب تحديد اتجاهه مستقبلاً، ولكنه يتوقع المزيد من التنقيح المعلومات. ويشدد على حاجة المصريين الشديدة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل "حالة التخريب التي طاولت مهنة الإعلام والمؤسسات الصحافية وابتعادها عن نبض الشارع".
يدعم عميد كلية الإدارة والإعلام السابق في الجامعة الأميركية في القاهرة، عمرو كامل مرتضى، الرأي القائل بأهمية منصات التواصل الاجتماعي، في ظل طباعة صحف لا تُقرأ. وتوقع، في اتصال مع "العربي الجديد"، أن تظل وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر نقلاً للأخبار وما يدور حول حياة المواطنين.
ويشرح أستاذ الإعلام في جامعة الأزهر، محمود شهاب، طبيعة المرحلة الصعبة التي تمر بها هذه المنصات، مبيناً أنها انتقالية، إذ تريد مؤسسات وقوى كبرى تفتيت الشبكات الحالية لصالح أخرى. يؤكد شهاب أن دخول الذكاء الاصطناعي في مجالات جديدة للميديا سيحدث تغييراً هائلاً في كيفية إجراء المقابلات والحوارات عبر غرف التواصل الافتراضية. ويوضح، لـ"العربي الجديد"، أن الانتقال للمراحل التقنية الجديدة سيكون أكثر صعوبة على الدولة والأسر، لأنها تعتمد على المعايشة الافتراضية للمتعاملين مع هذه الوسائل، وخاصة لمن هم دون 17 عاماً. ويشير إلى أن الجيل الأصغر سناً، المتفاعل بغزارة مع منصات التواصل، يتطلع للانتقال إلى البقاء متصلاً داخل هذه الغرف، بعيداً من رقابة الأهل المنشغلين بالسعي وراء الرزق ومواجهة ضغوط الحياة، بما سيتيح له منافذ معرفية كبيرة، بعيداً من العائلة، "تضع المجتمع بأسره أمام واقع خطير".
يركز شهاب على ضرورة الاستفادة من التطور التقني الذي ستشهده تلك الوسائل التي ستتقدم وفقاً لمبدأ التطور الطبيعي والتكامل بين العلوم والتقنية. ويطالب بأن يهم المجتمع بأسره للتعاون في إحداث تراكم معرفي كبير لدى مستخدمي وسائل التواصل، وخاصة صغار السن، لتعريفهم بالقيم الحاكمة لسلوكياتهم عند طلبهم المعرفة من هذه المواقع، وليتمكنوا بأنفسهم من تقييم المعلومات التي يتلقونها، وتحديد موقفهم عند التعرض لها، منبهاً من خطورة ترك الأجيال الصغيرة بلا منظومة أخلاقية حاكمة تدفع المجتمع من حال سيئ إلى أسوأ.