اختلفت هندسة المدافن من شعب لشعب ومن عصر لعصر، وتباينت معها طرائق الدفن، فبات تشييد المدافن من أهم فروع العمارة لدورها في توثيق طقوس الشعوب وشعائرها. منذ أقدم العصور، تعددت أساليب البشرية في رفض الموت وعدم الإذعان للرحيل والتسليم به، ومنه وُلدت فكرة الأنصاب والشواهد، كصروح من شأنها عرقلة النسيان المحتّم وتخليد ذكرى الراحل.
نماذج لمدن الدفن
ساهمت المدن الميتة في شمال غرب سورية بتقديم أرشيف ضخم عن العمارة بكافة فصولها، حيث زخرت العمارة الجنائزية فيها بأهمية كبيرة من ناحية المخططات والزخرفة وتنوع الأشكال المعمارية، مثل الهرمية، وهي مدافن على شكل معبد، محفورة في الصخر، لها شكل قبّة مثلثية على أربعة عواميد. إلخ، وكثير من النماذج الأخرى التي وثّقت حقبة طويلة من حياة تلك الشعوب. تمكنت هذه العمائر من البقاء منذ القرون الميلادية الأولى وحتى اللحظة، لولا أن الحرب زحفت إليها، فطاول الدّمار والخراب بعض أجزائها.
وإذا ما انتقلنا إلى القاهرة، فستُستكمل فصول الأرشيف المعماري الجنائزي في مدن دفن سمّيت "القرافات". وساهم امتدادها التاريخي على مدار 1400 عام في تراكم مخزون معماري ضخم حمل سمات العصور الإسلامية منذ بداياتها، إلى جانب دورها الكبير في توثيق التفاصيل والعناصر التي خلّدت في صفحاتها ذهنية الشعوب وطرق تعاملها مع العالم الآخر.
لم تنشب حرب هنا كما في المدن الميتة، ولم تتهتّك الأرض بفعل زلزال عنيف، وأيضًا لم يفِض نهر المدينة القديم ليبتلع أساساتها، إنما الذي حدث كان أسوأ من كل هذه السيناريوهات؛ ففي 23 أغسطس/آب من العام الحالي، اجتاحت البلدوزرات منطقة القرافات التاريخية، وبدأت هدم مدفن عُتَقَاء إبراهيم حلمي، ابن الخديوي إسماعيل.
لم تكن هي المرّة الأولى، فقد سبقها في صباح 20/7/2020 إدخال الجرّافات إلى منطقة جبانات المماليك التاريخية والمعروفة أيضا باسم مقابر الغفير، وهدم بعض عمائرها الزاخرة بالعناصر فاتنة البناء. حوت هذه المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية شرق القاهرة، أقدم القباب الضريحيّة الباقية في عمارة مصر الإسلامية، التي سويت أرضًا تحت بند تطوير المنطقة، وإنشاء ما يعرف بمحور الفردوس، في وقت يعتبر مرور السيارات في الأحياء الأثريّة خطرًا يهدد أساسات العمائر التاريخية، فما هو حال دخول بلدوزرات عملاقة لمسحها عن بكرة أبيها؟
القرافات تاريخياً
القرافة اسم لموضعين في مصر، القرافة الكبرى وهي في شرق مصر (الفسطاط) بجوار المساكن، وفيها كانت مدافن المسلمين منذ دخل هؤلاء مصر واختطوا مدينة الفسطاط، ولم تكن لهم مقبرة سواها كما ذكر المقريزي. أما القرافة الصغرى، فهي في سفح المقطّم، وفيها قبر الإمام الشافعي، وكانت في أول الأمر خطّتين لقبيلة عربية من اليمن يقال لها بنو قرافة. ومن أهم مزاراتها قبر السيدة نفيسة، وقبر الإمام الشافعي، وقبر الإمام الليث بن سعد. وقد نشأت القرافة الصغرى في العصر الأيوبي، ونالت شهرتها عندما دفن الملك الكامل ابنه 1211 ميلادية بجوار قبر الإمام الشافعي، وبنى القبة الضخمة على ضريحه. وقام بتوصيل المياه العذبة، سبب ذلك إحداث نهضة عمرانية، كان من أهم مظاهرها، النشاط المعماري التنافسي الملحوظ للأمراء والسلاطين في بناء الجوامع والخوانق والمدارس والزوايا، وقد كثرت المزارات والمشاهد الشريفة التي كان الناس يزورونها ويتبركون بها.
تنظر الحكومة المصرية، اليوم، إلى القرافات على أنها منطقة عشوائيات لا تتناسب والرّؤى التطويرية التحديثية، فكان لزاما عليها أن تعيد ترتيب هذه الفوضى، إلا أن أعمال الترتيب تلك ستستهلك الكثير من الجهد والطاقة، أما بناء عاصمة جديدة، وشق العاصمة القديمة بشبكة من الطرق والكباري، فاعتبر أقل استنزافًا للطاقات وأقل هدرًا للمال العام.
اشتعلت حالة من الهيجان والردود الغاضبة على مدار السنوات الثلاث الماضية، احتجاجا على هدم المدافن الأثرية في مناطق الإمام الشافعي والسيدة نفيسة والسيدة عائشة وصحراء المماليك. الأمر الذي دفع بالنظام المصري للالتفاف على حالة الغليان لكمّ الأفواه واستعادة زمام الأمور، فارتأى إنشاء مقبرة دعاها مقبرة الخالدين.
مقبرة الخالدين
عن هذه المقبرة، جاء في وسائل الإعلام المصرية": "تشمل مقبرة الخالدين إنشاء منطقة كبيرة تضم زعماء مصر على مدار العصور المتعاقبة، وتكون مزارا للمواطنين للاطلاع على تاريخ هؤلاء الزعماء ومعرفة حجم ما قدموه للدولة، وستكون مصممة وفقا لأعلى مستوى وبشكل حضاري ليجمع كل الخالدين وزعماء الوطن، ويكون مزارا".
فيما يرى "كبير الآثاريين" في وزارة السياحة والآثار المصرية، مجدي شاكر أنه "يجب أن تراعي مقبرة الخالدين عددا من الاشتراطات المهمة، مثل نقل العنصر العمراني للمقبرة مع الرفات، لكي تكون مدينة ثقافية متكاملة". ويؤكد أيضا: "إنّ هناك بعض الدول مثل اليونان وفرنسا لديها مدن بنفس الشكل وتستفيد منها في الترويج للسياحة، لذلك تجب الاستفادة من تجاربها".
كثيرة هي التساؤلات التي تحيط بردود فعل بعض الاختصاصيين في الآثار. يختارون الانحياز إلى خطاب السلطة غاضين الطرف عن المجازر الحاصلة بحق تاريخ هم الأعرف بغناه الحضاري. كيف يمكن أن يغيب عن ذهن "كبير الآثاريين" أن عملية نقل أي أثر فيها فقدان لهويته الأثرية وسياقه التاريخي؟ هذا وفي حال كان الحديث يمس قطعة أو لقية، نحن هنا نتكلم على نقل بناء مكتمل بجدرانه وعناصره المعمارية والزخرفية المحفورة في نسيجه البنيوي؟
وفي حال صدقنا بروباغندا مقبرة الخالدين والمرويات المرافقة لها من توخي الحذر والعناية في نقل مكونات البنى وتركيباتها، فهل نكذب أرض الواقع التي سارع إليها المهتمون بالتراث والتاريخ إلى التقاط شواهد القبور والتركيبات ذات الأهمية الكبيرة لإنقاذها من أيدي السارقين والتدمير؟
في القرافات هناك عناصر وتراكيب مهمّة، هنا أبرزها
- شواهد القبور: وهي من أهم العناصر التي احتوتها القرافة، الموثقة لأرشيف الموتى. فتتبع النقوش الكتابية المدونة على الشواهد يعطينا إضاءات بالغة الأهمية عن علاقات القرابة في المجتمع، والتطور الاجتماعي للأسر الممتدة، فالمقبرة الواحدة يدفن فيها عدد من الأجيال المتتابعة من ذات الأسرة. هذا إلى جانب مناطق جبانات القاهرة الأغنى بالنقوش الكتابية التي لا تقدر بثمن، لأنها تضم أجمل نماذج أعمال كبار الخطاطين في مصر والعالم الإسلامي".
- القباب: كانت القرافة الجنوبية، في وقت ما، مليئة بالقباب التي أُنشئت في وقت مبكر جدًا من الفترة الإسلامية. ومن الظواهر الغريبة في بناء القباب الإسلامية في مصر تخطيها القواعد المتبعة، مثل قبة الشافعي المغشاة من الخارج بصفائح النحاس؛ والحافلة من الداخل بزخارف فنية وهندسية. وقبة المشهد الحسيني (553 هـ/ 1158م)، وهي أقدم من قبة الشــافعي، وقبة الســيد أحمد البدوي بطنطــا، قبة الحصواتي، وقبة الملك الصالح (الخلفاء العباسيين)، إضافة إلى القباب ذات التأثيرات المغولية "حجرية مضلعة". وليس هناك متسع لعرضها جميعا إلا أنها أهم العناصر المعمارية في القرافات.
- المقرنصات: وتسمى أيضاً الدّلّايات، لكونها تتدلى في الفراغ كما يتدلى النجف في الأفراح، وهي شبيهة تقريبا بخلايا النحل، ونراها في أغلب عمائر القرافات. وليس الغرض منها الزينة والزخرفة وحسب، بل إنها تشغل في الهندسة المعمارية والزخرفية ركنا مهما للغاية، تُستعمل الدلّّايات في طريقة الانتقال من شكل إلى آخر يخالفه، مثال ذلك ما نراه في القباب، وهي في الغالب كروية محمولة على قواعد مربعة الشكل، ففي الفراغ الناشئ عادة عن انتقال السطح المربع إلى سطح دائري كان المهندسون الإسلاميون يملأونه بهذه الاشكال وهي الدّلّايات، فيضعون الصفوف فوق بعضها، كل صف يبرز عن الذي أسفله، حيث يلتقي الصف الأعلى بصف القبة. وهي في هذه الوجهة شبيهة بالعقود في حمل ما يعلوها من المباني.
نهاية، يتذرع النظام المصري بمؤازرة جيش من اختصاصيي الآثار أمام الرأي العام، بأن هذه العمائر ليست مسجلة بلائحة التنسيق الحضاري، بالرغم من أن مدفن علي باشا فهمي الذي يعد درة العمائر في منطقة القرافة مدرج في اللائحة إلى جانب العديد من المدافن الهامة، التي أعطيت أرقاما لتنتظر دورها في قائمة الإزالة.
توقفت أعمال الهدم بمقابر الإمام الشافعي، بالتزامن مع إغلاق الأحواش التاريخية الشهيرة أمام زيارات الباحثين والمهتمين، ومنع التصوير في المنطقة وسط تواجد أمني مكثف بدعوى "حراسة المقابر التراثية"!
لكن هل هذا التوقف سيلزم النظام المصري بعدم إكمال مخطط الإبادة للقرافات، أم هو تخدير مؤقت لحالة الغليان الشعبي؟
وفي حال عادت الجرّافات إلى المنطقة، فهل سنكون على أهبة الاستعداد لمواجهة الهدم الجارف؟