نُصرت علي خان: الموسيقي ابن الوقت

09 أكتوبر 2022
تمرّ هذه الأيام 74 عاماً على ميلاده (ديفيد ليفونسون / Getty)
+ الخط -

لمّا سُئل "القوّال"، نُصرت فاتح علي خان (1948 - 1997)، عن الكيفية التي يسير عليها فنّ "القوّالي"، أجاب: "عندما أبدأ الغناء، أدع نفسي تنغمر في الموسيقى، ولا يبقى شيء سوى هذا الانغمار. بفضل أولئك الذين سبقوني، تمكّنت من إبلاغ ذات الرسالة التي حملوها من قبلي، فأهب نفسي لخدمة المستمعين، في سبيل جعلهم يتلقّفونها".

والقوّالي لفظة يعود أصلها إلى كلمة "قول" في اللغة العربية، تُطلق على لون غناءٍ صوفي ظهر في شبه القارة الهندية زمن حكم المغول المسلمين في القرن الثالث عشر الميلادي، يمدح النبي محمداً وآله، ويحمد الخالق ويمجّده، تتلاقح فيه الموسيقى التقليدية الهندية (تُعرف محليّاً بالموسيقى الكلاسيكية، أو الراغا)، مع الثقافة الإسلامية، من خلال قصائد فارسية وعربية في العشق الإلهي. 

أما أوستاد نُصرت فاتح علي خان، الذي تُصادف الثالث عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول، ذكرى ميلاده، فهو الأستاذ الأشهر لهذا الفن الغنائي في النصف الثاني من القرن العشرين. ولئن جاء المولد عاماً واحداً بُعيد انفصال باكستان عن الهند سنة 1947، ظل ابن مدينة فيصل آباد الباكستانية صوتاً صدّاحاً يأسر القلوب وجْداً وطرباً على طرفي الحدود، بين المسلمين والهندوس وغيرهم، في أنحاء العالم، على حدّ سواء.

في أي موسيقى تناجي الروح، وتتلمس مفاصل الغيب، سواء كانت تتبع تقليداً صوفياً، أو تنبُع تعبيراً جمالياً خالصاً، تكتسب حال الانغمار التي يعيشها المؤدي في أثناء الأداء، مُغنّياً كان أو عازفاً، بُعدين: واحدٌ تعبيري، يخصّ الموسيقى كوسيط فني، وآخر غيبي، يخص الكُلي، يتمثل عند المتصوف بإشراق إلهي، وعند غير المتصوف بإشراق جمالي، يختبره المُؤدي المُريدُ الحائز أدوات أدائه، وذلك عند فاصلةٍ زمنية عارضة، خاطفة، زائلة من دفق الأداء.

جمَع أوستاد نُصرت في ذاته كلا البعدين. فمدخله إلى الموسيقى صوفيّ أصلاً، تراثاً ومسلكاً. أما أدواته، فهي على درجة من المكانة والاقتدار، بحيث تؤهلّه إلى اختبار الانغمار، ليُغدو حين يُغنّي، على حد تعبير المتصوفة، "ابن الوقت". عبر الذكر الإلهي والمديح النبوي، ينغمر في اللحن والإيقاع. عندها، تمرّ الرسالة من السابقين إلى اللاحقين، "فيستحضر الصوفي (الموسيقي) الماضي بالحاضر"، كما كتب المؤرخ والفيلسوف تيتوس بوركهارت، "ذلك لأن الحاضر ينطوي على كل امتدادات الزمن؛ هكذا، بدلاً من العودة إلى الماضي، يتخاطب بصورة عمودية، مع الماهيات التي تحكم الماضي في المستقبل".

تمثّل الموسيقى بوصفها وسيطاً تعبيرياً، مادته الصوت الفيزيائي، ماهيّته الزمن النفسي ومسرحه الأداء الجسدي، الممارسة البشرية المُثلى لاختبار حال الانغمار. في الرياضة أيضاً، بوصفها نوعاً من أنواع الأداء الذهني والبدني، يختبر الرياضي حالاً شبيهة من الانغمار، يُصطلح عليه ولوج "المنطقة" (Zone)، يُعرّفها علم النفس الرياضي بأنها حال من التركيز الذهني الأقصى، يمكث فيها الرياضيون، يبلغون من خلالها الذروة في الأداء، عندما تتماهى الأنا إلى حد الذوبان والتلاشي في الهدف المراد تحقيقه من المنافسة.

في الموسيقى الهندية الكلاسيكية عموماً، والقوّالي خصوصاً، يلعب كل من اللحن والإيقاع دوراً بارزاً في تحفيز المُغنّي، أو العازف، على بلوغ حال الانغمار. يتميّز اللحن بسيولة بالغة تجعل منه يترقرق مفارقاً الأبعاد الصوتية الثابتة إلى ما بينها من البُعيدات متناهية الدقة والصغر. تلك الانسيابية اللحنية ذات الطبيعة البرزخية، تؤثر في نفس المؤدي، ليطرب لها، فيُطرِب السامع بدوره.

أما النبض الإيقاعي، فيعتمد نسق التصعيد، من البطيء إلى السريع، من الفاتر إلى الساخن، ومن البسيط إلى المركب. عبر تآلف كل من الدفق اللحني والأجيج الإيقاعي، وبحضور المستمعين في المكان، قد يبلغ المؤدي حالاً من الوجد، تنطبق عندها اللحظة على الأبدية، ليصير هو الموسيقى، والموسيقى هو.

وكما سبق لابن الحسن النفّري، الفيلسوف الصوفي أن قال ذات مرة: "كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة"، تسمع نصرت فاتح علي خان كثيراً ما يجود بالغناء من دون كلمات. وهي طريقة معروفة في الغناء الكلاسيكي الهندي، والشرقي عموماً، أي عندما تسمو الألحان بالكلام، إلى أن يغيب الكلام في الأفق وتبقى الألحان تتفرّع وتتلوى كالأغصان، تتولّد من حنجرة المُغني بتلفّظه أزواجاً وأثلاثاً من الحروف، كالآه والليل عند العرب، تزيد من التطريب، الذي زاد كلما زادت الموسيقى خفّةً وحركة، بعد أن تحررت من حِمل المعنى.

تُعبّر حال الانغمار التي وصفها سيد القوّالي، والتي ظلت تُشكّل مصدر جذب نفسي وروحي لكل شغوف بالبوح عبر الصوت، عن المظهر الخبروي Experiential للممارسة الموسيقية. لئن بدا ذلك المظهر أكثر وضوحاً في الغناء الصوفي، وذلك لما تحمله الفلسفة الصوفية نفسها من سمة خبروية، إلا أن الانغمار في أثناء الأداء، سواء على المسرح بحضور الجمهور، أو في الأستوديو في أثناء التسجيل أو التمرين، إنما هي حالٌ يعيشها كثيرٌ من العازفين والمُغنين. ينشدها معظمهم، وعندما تصيب أحدهم، فإن اللذة الناتجة منها، ستجعل منها الغاية المرجوة من الأداء، والمكافأة الحقيقية التي يصبو إليها المؤدي.

لتلك اللذة، وذاك الشعور المفعم بالمكافأة، مكامن بيولوجية ترتبط بوضع الدماغ البشري عند اختبار درجات عليا من التركيز والصفاء الذهني، عند ذرى الأداء. دراسةٌ أجريت العام الماضي ونشرت في دورية Science Advances، رصدت ارتفاعاً متزايداً في الدوبامين التي يُنتجه الدماغ، وذلك عندما يلج الرياضي "المنطقة"، أو يقيم المؤدي في حال الانغمار. والدوبامين مركّبٌ كيميائي، يلعب دور موصلٍ عصبي، يُحسّن المزاج، يشدّ من الانتباه، يقوّي الذاكرة، ويرفع من كفاءة سائر الوظائف الجسمية.

من هنا، تتضافر العوامل العديدة التي تجعل من الانغمار تجربة فريدة في الأداء الموسيقي. كذلك تُسهم الماهية الزمنية للموسيقى في جعل ولوج "المنطقة" تجربة خبروية خاصة. أما حين يشعر فنان، كنصرت علي خان، بأنه مرسال للأجيال، يحمل عبر صوته معرفة الماضي إلى المستقبل، عند فاصلة الآن والهُنا، وائتناساً بالحضرة الإلهية، يصير حينها للانغمار وقع وجودي وكثافة روحانية منقطعي النظير. فأن تغمرك الموسيقى كما غمرته، يعني أن تكون "ابن الوقت"؛ أن تصير خرم إبرة، يلج فيها الكون.

المساهمون