لوهلة ظننت أنّني في منزل رسّام. لكنّني تذكّرت أنّني هنا لإجراء مقابلة مع نديم قطيش، الإعلامي اللمّاح الذي يبدو كما لو أنّه "قائد" فريق 14 آذار في بيروت.
شارف نديم قطيش على الأربعين. وهو صديق أبرز وزراء ونوّاب 14 آذار، من وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى وزير العدل أشرف ريفي. كان مقرّباً جدّاً من اللواء وسام الحسن، الذي اغتيل في الأشرفية قرب منزله. وهو بات في دائرة قريبة جداً من الرئيس سعد الحريري.
بدأ حياته في الصحافة اللبنانية، ثم عمل في قطر ودبي، ثم في قناة "الحرّة" بالولايات المتحدة الأميركية، ليعود إلى الكويت، ويحطّ منذ 2007 في تلفزيون "المستقبل" مقدّم برامج ومذيع أخبار، ورسا في 2013 على برنامج DNA الذي وصل عدد مشاهدي بعض حلقاته على Youtube إلى أكثر من مليون.
أكثر من عشرين لوحة بين الصالون وغرفة الجلوس. ولوحات أخرى دلّني عليها في غرف النوم والممرات. ومن هنا يبدأ الحديث. فكيف لإعلامي شديد التطرّف في انحيازه إلى فريق سياسي، يطلّ يومياً ليتحدّث في السياسة، ويكتب مقالين سياسيين أسبوعياً، في جريدة "عكاظ" وفي موقع "المدن" الالكتروني، كيف يمكنه أن يكون شغوفاً بالرسم إلى هذه الدرجة، دون أن نعرف؟
"الفنّ هو درع البشر الوحيد"، يجيب قطيش، ابن بلدة عيناثا جنوب لبنان. ويضيف: "الدرع الوحيد لمواجهة جلف التاريخ. ذاك الذي يكتبه المنتصرون. فكلّ التواريخ منقوصة أو هي وجهات نظر. ويبقى الفنّ هو ما يؤرّخ لمرحلة ما بصفتها عيشاً لا حروباً ودماءً".
الشاب المتحمّس دوماً يروح عميقاً في الإجابة: "ماذا بقي من فتوحات الإسلام غير قصر الحمراء في إسبانيا؟ وماذا بقي من الفراعنة غير الأهرامات ورسوماتهم؟". ليخلص إلى أنّ "الفنّ هو الأرشيف الحقيقي للبشر".
لكنّه، هو المذيع الأساسي الذي يقدّم برنامج DNA من الإثنين إلى الجمعة في نشرة أخبار تلفزيون "المستقبل" التابع للرئيس سعد الحريري، لا يمكنه الهروب من السياسة التي تبدو مقيمة في كلّ جملة من جمله: "بأيّة حال أجمع فنّاً على ارتباط بالسياسة. أحبّ اقتناء لوحات أسمّيها فنون الربيع العربي".
ينهض ويتقدّم نحو لوحة لجميل ملاعب تصوّر رجلاً جالساً يتأمّل البحر: "مثلا هذا بحر طرابلس. وهذه طرابلس التي نحبّ. وجميل ملاعب هو أحد كتّاب تاريخ طرابلس وليس أحد قادة المحاور العسكريين. فالسياسة لا يمكنها أن تطمس هوية مدينة مثل طرابلس".
لكن ما هو المشترك بين الفنّ والرسم، والسياسة؟ إذ يتمتّع نديم قطيش بمئات العلاقات مع سياسيين، من نواب ووزراء. هو الذي يتلقّى باستمرار اتصالات، ويتصل بأشخاص، طوال الجلسة، لتنسيق موادّ برنامجه اليومي، يجيب باختصار: "المشترك هو الانطلاق من الشغف بالحياة. DNA هو برنامج يسعى إلى تحسين شروط الحياة، من خلال طلب الفكرة الأذكى والاحلى".
الجواب ليس كافياً. لا بدّ من سؤال أكثر حدّة: ألا تبدو المادّة التي تعمل عليها، في البرنامج السياسي اليومي القاسي والعنيف، "تافهة" أو "ضحلة" أمام اهتماماتك الفنية؟
يوافق نديم قطيش بالقول: بالضبط. المادّة هي تجميع للضحالة وللكذبة الكبيرة التي باسمها حكمت أنظمة عربية شعوباً ودولاً وقتلت وسجنت وعذّبت مئات الآلاف من العرب. وDNA لا يواكب سقوط أنظمة بل سقوط هذه الضحالة والكذبة والتفاهة. وأنا جزء من معركة تحاول إسقاط العقل "الممانع" أو "المقاوم".
لكن كيف يواجه خطر القتل من يشاهده عشرات الألواف على Youtube يومياً، ومئات الألوف في منازلهم؟ وكيف يقايض حريّته "الجسدية" بحريّة برنامجه الذي صار يسجّله في المنزل، بعدما كان "مباشراً" من مبنى التلفزيون في وسط بيروت؟
الإجابة بسيطة، يقول نديم قطيش: "أعيش عملياً داخل رأسي وليس بين هذه الجدران. وداخل رأسي عالم فسيح أخرج وأتنزّه فيه بين الكتب والأفكار وأناقش نفسي وأغيّر قناعات وأفكاراً". ويضيف: "لا أحتاج إلى نشاط اجتماعي كثيف لأشعر بالاكتفاء. لكن الصحافي يحتاج إلى الاختلاط بالناس وارتياد المقهى والشارع. أستعيض عن ذلك بتحويل منزلي إلى ما يشبه المنتدى لاستقبال الأصدقاء صباحاً وظهراً وليلاً".
أين الشاعر إذاً؟ فلنديم ديوان صغير بعنوان: "وأنا حبلى أيضاً" نشره قبل 3 أعوام: "الشاعر الذي فيّ عشيق سريّ. فالشعر مزاج. وتحت ضغط المهنة والسياسة يغيب ويعود. يبقى منه باستمرار ذاك الجنون الذي، وليست مصادفة أنّ كلّ الذين قاوموا الاحتلال السوري، منذ أوائل التسعينيات في بيروت، كانوا شعراء، من يوسف بزّي وعباس بيضون وبلال خبيز وعقل العويط، أو أدباء، مثل محمد علي الأتاسي والياس خوري وغيرهم". ويضيف: "كأنّنا نكتب باستمرار عن لبنان متخَيَّل لا عن لبنان الذي نعيش فيه، وهذا هو الشعر".
قطيش أيضاً طبّاخ: "الطبخ واحد من أبواب الهروب إلى عالم خاصّ. أطبخ لأطعم أصدقائي وعائلتي". وهو أب: "واحدة من أصدق الحالات التي أعيشها". وهو الكاتب السياسي، رغم إطلالته اليومية: "لأنني عابر بين خطوط تماس الكتابة والتلفزيون. والكتابة غواية وورطة جميلة وأنا موهوب في التلفزيون والكتابة، فلمَ لا أقوم بالعملين؟".
وسؤال أخير: "هل صحيح أنّك تتقدّم بطلبات عمل خارج لبنان، كما نشرت بعض المواقع الالكترونية؟".. يختم بإجابة واحدة: "نعم، سأعمل في المنار، فرع أستراليا"، ويضحك.