موسيقى الأنفاق... عابرٌ يعزف لعابرين

09 مارس 2021
هل توصف هذه الموسيقى بأنها تمكين جمالي خاص ومستقل أمام هذا واقع متوحش؟ (Getty)
+ الخط -

يعد العزف داخل محطات المترو والأنفاق الخاصة بشبكات المواصلات العامة، من الظواهر الفنية المرغوبة والمحبّبة لدى كثير من هواة الموسيقى حول العالم. هذه المشهدية اللطيفة والعابرة، التي لا نجدها أغلب الظن في بلداننا العربية، لها بصمة فنية مختلفة، وإن كانت لا تحظى بشعبية عالمية أو جماهيرية استهلاكية رائجة بالمفهوم التجاري.

في هذه الأنفاق، حيث صخب الحياة يفرزه عالم متسارع، ويتوجه نظام رأسمالي في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للبلدان المتقدمة، تنزع موسيقى الأنفاق عن نفسها هشاشة هذا التقدم والتطور، وتحفر في صلب البيروقراطية مكانتها. هذه النزعة الاستقلالية، لا تهاجم النمط الاستهلاكي وتنحو نحو الشهرة، بقدر ما تؤازر انطباعية الفلسفة الموسيقية أمام الإنسانية الطموح والمتراكمة. فإن مشهدًا عابرًا لرجل يعزف على غيتاره، وأمامه قبعة أو كشكول يجمع بهما نقود المارة داخل فيلم، أو حتى مقطع فيديو مصور تجده لرجل أو مجموعة يعزفون الجاز أو الروك في هذه الأنفاق، هو في صلبه تهميش أخلاقي من جهة الواقع البيروقراطي، وتجميل وتحسين بصري من جهة الواقع العبثي.

تفتح هذه الموسيقى مساحة فنية بدون البروتوكولات التحضيرية

ولكن، هل نصف هذه الثقافة، بأنها تمكين جمالي خاص ومستقل أمام هذا الواقع؟ بالطبع، مثل هذه الأمكنة المخصصة للتلاقي العشوائي المؤقت، لن تنصف هذه الصيغة، وتمنح الموسيقي المغامر والجاد حقه. فعلى سبيل المثال، لو كان النموذج الموسيقي متمثلًا بالشكل والحضور، كاليافعين والمشغوفين وحتى الهيبّيين، وبالنوع الموسيقي المتمثل بنمط ما (جاز، بوب، روك، بلوز، إلخ..)، فإن قدر الاستحسان والعطف لن يفيهم حقهم سوى ببضع فرنكات، وعدد من التصفيقات، وربما الرقص. فهي وصلة مؤقتة لعابر مؤقت لم يحجز تذكرة دفع ثمنها قبل أيام وهيأ نفسه لسماعها والاستمتاع بها لساعات داخل مسرح أو قاعة موسيقية. ولكن، لمجرد الوقوف عندها لدقائق معدودات، ستمنح المستمع تذكرة مجانية أو بخسة الثمن مقابل، ثمن الأحلام والمهام الروتينية باهظة الثمن. وبالتالي، هذه المعادلة ستعكس حسًا تناظريًا. المستمع العابر سينجو من الصخب الهائم حوله خلال هذه الدقائق، والعازف أو الموسيقي سيتمكن من طرح تجربته الخلّاقة من دون قيود أو حواجز. ومع ذلك، تشق موسيقى الأنفاق طريقها بين جلبة المارين والعابرين. فهذه الأنفاق في صلبها تشكل فضاءً فنيًا مناسبًا لتقديم تجربة موسيقية تتميز بطاقة من نوع خاص تناسب مناخ الأنفاق المعتاد.

تسمح هذه الموسيقى بإجراء التجارب المتنوعة، وتفتح مساحة لحدود فنية لن تتقيد بالبروتوكولات التحضيرية، كاستئجار الإستديوهات والصالات باهظة الثمن، كما أنها على تماس مباشر مع الناس، وهو مؤشر لنضوج مشروع موسيقي تحدد مستواه آراء هذه الناس. ولما كانت مساحة خاصة للتدريب وتلقي ردود أفعال المستمعين، فإن التجربة هذه على قدر مناسب من الترويج والدعاية، توازيها جمالية الحضور والتقديم والترفيه دونما الخضوع للتمثيل الرأسمالي وأدواته الإنتاجية.
تمنح أجواء الأنفاق الخاصة حرية أكبر للأداء والعزف، وتخلق صورة جمالية وتفاعلية، فالناس يستمعون ويرقصون في كثير من الأحيان؛ ما يدفعنا إلى القول إن هذه الثقافة تستطيع تربية الذائقة الجمالية عند الجمهور العابر.

موسيقى
التحديثات الحية

ولولا أن هذه الثقافة لم تكن على قدر عالٍ من التأثير لما دفعت بعض الدول لاستغلال هذه الظاهرة، وتوظيفها في جوانب فنية أخرى للتأثير على الناس واستقطابهم داخل هذه الأنفاق. فروسيا مثلًا عام 2017 عمدت بمناسبة الذكرى 105 لتأسيس متحف "بوشكين"، إلى إقامة معرض للصور الفوتوغرافية داخل مترو أنفاق موسكو. وكذلك، لجأت فرنسا في العام نفسه، إلى وضع لوحات الرسام الهولندي رامبرانت، في عدد من محطات المترو في العاصمة باريس، بعد أن كانت هذه اللوحات معروضة في متحف " جاك مارت أندريه". 

لموسيقى الأنفاق فلسفة جمالية توازيها فلسفة فكرية تنتجها من دون رادع نقدي مبتذل. فإن كانت لا تختلف عن مظاهر الفنون المقدمة في الساحات والميادين العامة، إلا أنها، رغم هامشيتها، لها خصوصية فكرية تُخرِج من عمق التناحر الاجتماعي والاقتصادي، ثقافةً أكثر اعتدالًا وقبولًا لدى الجمهور وتحيط به مهما اختلفت أذواقه وتنوعت.
هذه الهامشية في مكان، تعد وصلة طويلة الأجل. ثابتة قائمة بحد ذاتها ولا رتابة فيها. كل ذلك خلال ثوانٍ أو دقائق معدودات.

المساهمون