موسوعة ويكيبيديا... 20 عاماً أيّها العالم

19 يناير 2021
لا يزال جيمي ويلز يدافع عن المشروع الذي ساهم في تأسيسه (Getty)
+ الخط -

مع كلّ صباح، فور أن نستيقظ، تتلمّس الأيادي هاتفاً ملقى قرب السرير. كلّ يوم، يتفقد المرء هاتفه 88 مرة. فكم واحدة من بينها تكون من نصيب "ويكيبيديا

في عام 2001، نشر جيمي ويلز: "مرحباً أيها العالم". أول مقالة على "ويكيبديا"، دعا فيه مجتمع الإنترنت إلى المشاركة في مشروع موسوعي. بعد 20 عاماً، مع أكثر من 50 مليون مقالة في 300 لغة، تمسّ كلّ مجالات حياتنا اليومية، بات المشروع أكبر موسوعة في كلّ العصور.

افتُتحت "ويكيبيديا" بوعد إضفاء الطابع الديمقراطي، بشكل جذري، على إنتاج المعرفة، الذي احتكرته النخب آلاف السنين، وأتاحت لأيّ شخص التعاون معها على النظام الأساسي، بغضّ النظر عن مستوى التعليم أو الخلفية الاجتماعية.

"كان يا ما كان ويكيبيديا، 20 عاماً من موسوعة رقمية" (2021)، فيلمٌ وثائقي ألماني للورنزا كاستيلا وياشا هِنوفر، بثّته المحطة الثقافية الفرنسية الألمانية "آرتي" في 6 يناير/ كانون الثاني الحالي، بمناسبة مرور 20 عاماً على تأسيس "ويكيبيديا" (15 يناير/ كانون الثاني 2021).

يعود الفيلم إلى بدايات هذه الموسوعة العالمية الرقمية، التي أسّسها الأميركيّان جيمي ويلز ولاري سانغر، ويطرح تساؤلات عن آلية عملها، ويتعمّق في أساليبها، بفضل شهادات المؤسّسين، وعدد من المساهمين "الويكيبيديين" من أنحاء العالم. يسترجع الوثائقي، مع البدايات، المصاعب والشكوك والجدل حول مستوى مضامينها، ونوعية المشاركين فيها.

يروي مؤسِّسا الموقع عن الحماسة للمشروع منذ بدايته، وهما لم يتجرّآ حتّى على الحلم به. لكنْ، إنْ كان ويلز يبدو إلى اليوم فخوراً ومُدافعاً عن إنجازات "ويكيبيديا"، فإنّ سانغر بات أحد أكبر منتقديها، إلى درجة أنّه يُفضّل وصف نفسه بـ"مؤسّس سابق". ماذا حدث؟ كيف تطوّرت الموسوعة؟ هل أصبحت أكثر محافظة أم أكثر راديكالية؟ هل يُمكن اعتبارها مشروعاً ذا صبغة عالمية حقاً، أم أداة تُنتج معرفة مركزية غربية الطابع؟ التساؤلات التي يطرحها أيّ مستخدم للموسوعة بخصوص آلياتها، وهؤلاء "المختفون" خلف أسوارها، يجد مُعظمها إجابات في الفيلم، الذي يروي فضولهم من هذه الناحية، وإن بشكلٍ متكرّر أحياناً. بداية، يبرز الدور الذي أخذته الموسوعة الرقمية اليوم، وكيفية بدء البعض في المساهمة فيها. جاء هؤلاء ليملأوا نقصاً على النت، نبّهت إليه مشاكل العالم.

لاحَظتْ مُساهمةٌ من تونس مثلاً، في فترة الربيع العربي، أنّ هناك مشكلة في هوية البلد، وأنّهم لا يعرفون تاريخهم. "ويكيبيديا" أتاحت لها كتابة مقالات "توّثّق وتحفظ" الإرث الثقافي لجيلها، وللأجيال المستقبلية. عبّرتْ أخرى من مصر عن أنّهم غدوا "مؤرّخي العالم الجدد"، وانتبه مُساهمٌ من جنوب أفريقيا إلى غياب مقالات بلغته، فقرّر إغناء الموسوعة بها. جاء عالم بيولوجي ليحقّق رغبته في الكتابة عن مستحاثات الأفيال.

شُرّعت الأبواب أمام هؤلاء غير المعروفين ومجهولي الهوية، شرط تجنّب الآراء الشخصية في السياسة والدين، فالموسوعة تقدّم نفسها على أنها "حرّة، حيادية، ديمقراطية". لكنّ هذا "التخفّي"، وعدم ذكر أسماء المحررين، كان كما يبدو، هو أحد أسباب الهجوم على الموسوعة، فمن يضمن دقّة المصادر وصدقيتها؟ سمح "التخفّي" أيضاً لهيئات كبرى، كـ"مجلس الدوما الروسي" و"الكونغرس الأميركي" و"الحكومة البريطانية"، بالتدخّل خفية، لصوغ عدد من المقالات المنشورة، لتصبح "ويكيبيديا" وسيلة لنشر دعايات وعقائد وأهداف لمن يريد تحقيق أغراض سياسية، أو التأثير على الرأي العام. يردّ مدير الموسوعة مُدافعاً عنها بالقول إنّ هناك اليوم مراقبة للتأكّد من مصادر المعلومات المكتوبة وقيمتها.

سمح "التخفّي" أيضاً لهيئات كبرى، كـ"مجلس الدوما الروسي" و"الكونغرس الأميركي" و"الحكومة البريطانية"، بالتدخّل خفية، لصوغ عدد من المقالات المنشورة، لتصبح "ويكيبيديا" وسيلة لنشر دعايات وعقائد وأهداف

مع لفت الانتباه إلى أنّ الجميع، من مختلف أنحاء العالم، يساهمون في توفير المعرفة، وهم كمؤسّسة لا يبغون دعاية، ولا يسعون إلى تجميع معلومات خاصة بالمستخدمين. الدول لا تتدخّل خفية فقط، فبعضها يطلب علناً حذف مقالات، كما فعلت تركيا حول مقالتين عن الحرب الأهلية في سورية. لكنّ مساعدة التحرير في "ويكيبيديا" رفضت، بعد تحقّقها من المضمون، ما سبّب منعاً للموسوعة في تركيا لعامين ونصف العام، إلى أنْ قرّرت المحكمة العليا هناك أنّ قرار المنع غير دستوري.

يُشير الفيلم إلى ما كان سائداً قبل "ويكيبيديا" من موسوعات ورقيّة، تُعبّر عن نظرة أحادية. الرجل الأبيض الغربي مثلاً هو "أحمر ورائحته كالكلب المبلول"، في موسوعة صينية؛ والأسود أقلّ من الأبيض "عقلياً"، في موسوعة "بريتانيكا". التصحيح الدائم لمقالات "ويكيبيديا" يمنع مقولات كهذه. أما قرار الحذف، فيتمّ بالتصويت، وهذا ليس سلطة إلا بنسبة 0،004 في المائة من مجموع المستخدمين، وهم الإداريون (آدمن). لم تكن الآراء مُتّفقة دائماً على قيمتها، ولا سيما من قِبَل "الأستاذ الذي يعيش في عالم الكتب والآتي منها". وصفها مدير تحرير سابق لموسوعة "بريتانيكا" بأنّها "دورة مياه عمومية"، كما ذكّر ويلز ضاحكاً.

بعض الأساتذة كان يضع صفراً لمن يأتي بمعلوماته منها، كما شهد مُساهم فيها من جنوب أفريقيا. هناك من لا يزال رافضاً لها، وبحزم. حتّى إنّ أستاذاً جامعياً بريطانياً شبّهها بـ"سندويشة ماك كبيرة"؛ فهذا طعامٌ مُسيء للصحّة، وكذلك معلومات "ويكيبيديا". وأرجع نجاحها إلى توجّه عامٍ تسود فيه "السطحية" كلَّ شيء.

مع أن "ويكيبيديا" تضع المعرفة في متناول العالم كلّه، وتساهم بخلق معرفة إضافية ومشاركات مجّاناً، فهذا لا يعني عدم محدوديّتها، ولا يُلغي تساؤلات حول أهدافها ووسائلها. في هذا، لا يُقصّر الفيلم في اعتماد توازن بين الآراء المنتقدة وردود المسؤولين عن هذه المؤسّسة العالمية، ويستخدم لغة بصرية تعتمد التكنولوجيا الرقمية، في محاولةٍ لإضفاء تجديد على الصورة، في فيلم قائم كلّياً على شهادات أشخاصٍ. يلجأ الفيلم أحياناً إلى مَشاهد تمثيلية، تُعبّر عما يقال: مثلاً، عند الحديث عن قرار "طرد" الـ"روبوت" من إدارة تحرير "ويكيبيديا".

لاحَظتْ مُساهمةٌ من تونس مثلاً، في فترة الربيع العربي، أنّ هناك مشكلة في هوية البلد، وأنّهم لا يعرفون تاريخهم. "ويكيبيديا" أتاحت لها كتابة مقالات "توّثّق وتحفظ" الإرث الثقافي لجيلها، وللأجيال المستقبلية

كما اعتمد إيقاعاً سريعاً في سرد الشهادات، وإنْ لم تنج تلك من تكرار، مُستغلاً فضول المُشاهد للتعرّف على خلفيات موقعٍ، يأخذ حيزاً لم يعد تجاهله مُمكناً في حياته. كانت "ويكيبيديا"، في البداية، مُثيرة للجدل. لكنّها الآن مُتّهمة بأنّها تقترب كثيراً من الأسلوب التقليديّ للحصول على المعرفة. كما أنّ تمثيل النساء عامة، والرجال من بلدان الجنوب لا يزال ناقصاً، رغم أنّ مُساهمين عديدين يسعون إلى تغيير الوضع الراهن. تخلص آراءٌ إلى أنّ هذه الموسوعة العالمية، بعد 20 عاماً على إنشائها، تبدو مرآةً لمجتمعاتٍ تمرّ بمرحلة اضطراب عميق.

المساهمون