علي طوفان: إرث السينما العراقية يستحقّ أن يُسمع ويُرى

17 نوفمبر 2024
علي طوفان وإحدى الممثلات تحضيراً لتصوير "البصير" (الملف الصحافي)
+ الخط -

علي طوفان مخرج عراقي. بدأ مع الرسم والشعر. انتسب إلى "معهد الفنون الجميلة" طالباً زائراً، قبل مغادرته مُجبَراً إلى سويسرا حيث يُقيم حالياً. نال البكالوريوس من جامعة زوريخ عام 2002، وأخرج وكتب أفلاماً قصيرة عدّة. منذ عام 2007، يعمل في معالجة الصورة. أسّس "شركة الوراكي للخيال"، ونظّم ورشات عدّة في جامعات سويسرية وألمانية. فاز بجوائز، أهمّها "جائزة الفن السويسري" عام 2012. اختير فيلمه "البصير" للعرض في سوق مهرجان "كانّ"، في دورته الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024).

"البصير"، المُشارك في سوق مهرجان "كانّ 2024"، فيلمك الطويل الأول بعد أفلام قصيرة عدّة: ماذا عنه؟
إنّه أول روائي طويل لي بعد أفلامٍ قصيرة، سمحت لي استكشافاً عميقاً لمختلف أدوات التعبير السينمائي. لكنْ، ما يجعله فريداً أنّه أول روائي طويل، بدأت كتابته عام 2015. المشروع رحلة خاصة، لارتباطه العميق بتجاربي الشخصية، وتجارب مَن حولي. مستوحى من قصص عائلتي التي شكّلت جزءاً كبيراً من وعيي وتكويني الفكري، وأيضاً علاقتي بعمّتين لي كفيفتين، أثّرتا في رؤيتي البصرية للأشياء. تجربتي معهما ألهمتني. رؤيتهما الحياة.
استفدتُ من تجربتي الطويلة في نحو 20 عاماً، أعمل في فنّ الأداء، الذي تعلّمت بفضله كيفية التعامل مع المكان في صنع الصورة، وكيف أتعامل مع الأرضية والسقف والفضاء، وكيف يؤثّر حجم الفضاء ونوعه على أداء الممثل، لخلق صورة واقعية، لكنّها بنَفَسٍ جديد، ومصنوعة لشكلٍ فنّي حديث، يُجسّد أو يحاول خلق صورة لها علاقة بالثقافة والمكان. ولتأسيس سينما عراقية خالصة تشبه العراق فقط، لكنّها عالمية، ويُمكن فهمها والتفاعل معها في أي مكان في العالم. لذا، عليّ فهم المكان.

هل صُوِّر في العراق؟ هل استعنت بكادر عراقي مع الأجنبي؟
نعم، صُوِّر في العراق، تحديداً في الأهوار، تلك المنطقة التي تحمل أصالة وجمالاً يجعلانها تتجاوز كونها مجرّد موقع تصوير، لتصبح جزءاً من روح الفيلم نفسه.
بالنسبة إلى فريق العمل، كلمات الشكر وحدها لا تفي الامتنان الذي أشعر به تجاه كلّ فرد منهم. الفيلم نتاج تعاون عميق ومخلص بين كادرين عراقي وأجنبي، اجتمعت فيهما خبرات ثقافية وفنية متنوّعة لتشكيل تجربة فريدة ومؤثّرة. كلّ فرد، تقنيّ وممثّل، لم يكن مُنفّذ دور معين، بل شريكاً في الحلم، يضع روحه وشغفه في كلّ تفصيل صغير لخلق عالمٍ ينبض بالحياة. الجميع جزءٌ من هذا "النصّ السينمائي"، فالسينما لي ليست صناعة أو مهنة، بل حواراً مستمرّاً بين الإنسان وبيئته، والمخرج وفريقه، وبيننا جميعاً والقصّة التي نرويها.

كيف اخترت الممثلين العراقيين؟
عملية اختيار الممثلين تجربة خاصة بحدّ ذاتها. رحلة بحث عن وجوه وأرواح قادرة على التعبير عن الأعماق الخفية للشخصيات. لم يكن الهدف إيجاد ممثلين يجيدون الأداء فقط، بل البحث عن أشخاص يحملون في نظراتهم وحركاتهم صدى المكان، وتجربة الحياة العراقية بأبعادها وتعقيداتها.
بدأ اختبار الممثلين في الأهوار مع المُمثِّلَين الرئيسيَّين، أحمد مونيكا لشخصية أيوب وسامية رحماني لشخصية مراية، أو حسب الاعتقاد الآخر شخصية الجنّية ـ الإلهة أو الأم ـ الأرض. عندما عملت معهما، شعرتُ أنّي لا أبحث عن تمثيل بل عن حقيقة، تتجلّى في نظرة أو حركة، أو في لحظة صمت. أردت أنْ يكون كلّ ممثل تجسيداً حيّاً لشخصيته، وأنْ يشعر الجمهور أنّ الشخصيات التي يرونها على الشاشة امتدادٌ واقعي للبيئة العراقية، وتعبيرٌ عن تجارب حياتية عاشها الممثلون بشكل أو بآخر. جميع الممثلين الذين عملت معهم كاستينغ، والذىن اخترتهم، أظهروا منذ البداية فهماً عميقاً للشخصيات، كأنّهم يعيدون إحياء أجزاء من أنفسهم في كلّ مشهد. كانت لديهم قدرة استثنائية على الالتقاط العفوي لتفاصيل الشخصيات، على نحو يجعلها تبدو حيّة ومليئة بالدفء والصدق. تلك القدرة على التفاعل مع النص، ومع بيئة الأهوار القاسية، أضافت بُعداً فلسفياً للتصوير.

كيف استقبلتَ قبول الفيلم في سوق "كانّ"؟
قبوله في تلك السوق، بعد اختياره سابقاً لبرنامج الـ"أتيليه"، ليس اعترافاً به كعمل سينمائي فقط، بل اعترافاً برحلة طويلة، وبرؤية عراقية تتلمّس طريقها وسط زخم عالمي في أرقى منصّات السينما. أنْ يكون "البصير" أول فيلم عراقي يصل إلى الـ"أتيليه"، وأنْ يُختار في سوق "كانّ" في مرحلة ما بعد الإنتاج، إنجاز يحمل في طياته أهمية تتجاوزه: إنّه انتصار لصوت من أصوات العراق، في مكان يُعتَبر القلب النابض للسينما العالمية.
اختياره في الـ"أتيليه" فرصة نادرة سمحت لي بالتواصل مع أهمّ صناع السينما في العالم، ومناقشة رؤيتي ومشروعي في ضوء الاهتمام الدولي. في تلك اللحظات، لم يكن الأمر مجرّد تقديم مشروع، بل حواراً عميقاً عن كيف يُمكن للسينما أنْ تكون جسراً بين الثقافات، وصوتاً يتجاوز الحدود ويؤثّر. الدخول إلى تلك الدائرة العالمية تأكيد على أنّ السينما العراقية، رغم التحدّيات، تحمل إرثاً وتجربة إنسانية يستحقان أنْ يُسمَعا.

عرفتُ أنّك تستعدّ لفيلم عن "المغنّية" العراقية مسعودة العمارتلي، التي هي في الحقيقة امرأة متخفّية بهيئة رجل، له حضور مهمّ في المشهد الغنائي في العراق. هل استعنت بوثائق معينة عن حياته وسبب تخفّيه؟
مشروع "المغنّية" أكثر من سرد سيرة ذاتية. إنه استحضارٌ لصوت عظيم في تاريخ العراق، يعكس التحدّي والإبداع والبحث عن الحرية. مسعودة العمارتلي رمز لقوّة الفن حين يصبح صوتاً لا يُكتَم، وتعبير عن هوية تتحدّى الزمن والقوالب المجتمعية. شخصية استثنائية. فأنْ تظهر مطربة في العراق قبل قرن، تختار أنْ تتخفّى بهيئة رجل لتصل بصوتها إلى الجمهور، ليست مجرّد فنانة، بل امرأة قرّرت، في زمن شديد الصعوبة، كسر القيود وفتح الأفق أمام رؤيتها الخاصة للفن والحياة.
لمسعودة أثرٌ لا يُمحى في الموسيقى العراقية. أغانيها تتردّد إلى الآن. كأنّ صوتها يتجاوز الزمن ليصبح جزءاً من وجدان الشعب العراقي. هذا الحضور الملهم يؤكّد أنّ الفن الحقيقي لا يُنسى، وأنّه قادر على تجاوز الحدود والعصور لبلوغ قلوب الناس في كلّ وقت. إنّها ليست مجرّد مغنّية، بل رمزاً للجرأة والثبات. شخصية تتخطّى السرد التقليدي، وتُصبح تجسيداً للروح العراقية الثائرة والمستقلّة.

في المشروع هذا، أعيد تقديم حياتها، وأستعيد حقبة زاهية من تاريخ العراق، تتزامن مع "ثورة العشرين" ضد الاحتلال البريطاني، عندما انتفض العراقيون في وجه الظلم، وأسّسوا دولتهم المستقلة. كانت تلك الثورة رمزاً لمقاومة الاحتلال، وتجسيداً لتطلّع شعب بكامله للحرية والكرامة. شعب يؤمن بقيمة ثقافته ووعيه وتاريخه العريق.

أين وصلت في هذا المشروع؟
حالياً، لا يزال في مرحلة التطوير والبحث. قبل فترة، أنهيت كتابة النسخة الأولى من السيناريو، والآن في طور كتابة نسخة ثانية. وضعت كل طاقتي مع فريق العمل في جمع المعلومات الدقيقة عن حياة مسعود: وثائق ومصادر مكتوبة، والاستماع إلى قصص شفهية وشهادات قديمة من أبناء المنطقة، الذين لا يزالون يحملون ذكراها، ويعرفون أغانيها. قصص تضيف إلى المشروع طبقات جديدة من العمق، تجعلني أدرك أكثر مدى أهمية هذا العمل كفيلم وكوثيقة فنية تحيي تاريخاً حقيقياً، وتُلقي ضوءاً على حقبة ثقافية وسياسية مهمّة في حياة العراق.

بدأت شاعراً. ما الذي تبقّى من الشعر؟ هل له دور في صوغ أفكارك السينمائية؟
الشعر والرسم كانا البداية التي شكّلت رؤيتي الفنية. أدوات أولى علّمتني كيف ألتقط التفاصيل وأعبّر عن المشاعر والقصص بطرق غير مباشرة. الشعر علّمني التركيز على جوهر الفكرة وعمق الإحساس، والرسم جعلني أفهم قوّة الصورة كوسيلة للتواصل. هذا المزج بين الكلمة والصورة لا يزال يرافقني إلى اليوم، ويؤثّر في كل خطوة أتّخذها في إخراج أفلامي.
عندما أكتب مشهداً سينمائياً، أشعر أنّي أتعامل مع السيناريو بالطريقة نفسها التي أتعامل بها مع القصيدة. أبحث عن الإيقاع الداخلي، وعن الطريقة التي يُمكن أنْ يصل بها المعنى من دون إفراط في الشرح. الرسم منحني فهماً بصرياً للمشهد، وكيف يُمكن لتفاصيل الألوان والتكوين أنْ تعبّر عن العاطفة، وتعزّز القصة من دون الحاجة إلى الكلمات.

المساهمون