موريتزيو بولّيني... بيانو من ذلك الزمان

01 ابريل 2024
ظل يحيي الأمسيات حتى عام 2022 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- وفاة موريتزيو بولّيني تمثل خسارة لشخصية موسيقية مؤثرة ونهاية لعصر ذهبي في الموسيقى الكلاسيكية، حيث كان جزءًا من جيل حقق شهرة عالمية بأدائهم المتقن.
- بولّيني اشتهر بأسلوب عزف يركز على العمق التقني والحساسية الفنية، مفضلاً التواصل الروحي مع الجمهور عبر الأمانة في تقديم الأعمال الموسيقية.
- رحيله يشير إلى تحول في الذائقة الموسيقية وتراجع شعبية الموسيقى الكلاسيكية، مما يطرح تحديات أمام العازفين الكلاسيكيين في الحفاظ على الإرث الموسيقي في عصر البصري والافتراضي.

ليس عازف البيانو الإيطالي موريتزيو بولّيني (Maurizio Pollini) مَن رحل في الـ23 من الشهر الحالي وحسب، وإنما حقبة بأكملها باتت بدورها تُشارف على الرحيل، نشط خلالها جيلٌ من الفنانين، حققوا نجومية وشهرة واسعة عابرة للدول والثقافات، فقط بأدائهم لموسيقى عاش مؤلّفوها في حقبٍ ماضية.

نَعيُ موريتزيو بولّيني لم يأت من بيت الأسرة أو دائرة الأقرباء والأصدقاء، وإنما من بيته الموسيقي وحاضنته الفنية، من دار أوبرا مدينة ميلانو، مسقط رأسه، الشهيرة باسم مسرح آلا سكالا (Teatro alla Scala)، حيث حُفظ لأجله شاغرٌ دائمٌ على جدول عروضها السنوية، وظل يحيي الأمسيات حتى اضطرّ سنة 2022 إلى إلغاء الموسم، إثر بوادر اعتلالٍ صحيّ أصابه.
 
قد كتب عنه ذات مرة، المفكر والناقد الموسيقي إدوارد سعيد (1935 - 2003): "لا يتصف عزفه لا بالسهولة السطحية ولا بالجهد البطولي". أما عازف البيانو وقائد الأوركسترا دانييل بارنبويم فقد أشار إلى "موقف أخلاقي لديه إزاء الموسيقى"؛ إذ كان موريتزيو بولّيني من بين العازفين المُتمكّنين تقنياً، الذين عمدوا إلى إضمار إمكاناتهم، موظِّفين الحرفية والتقنية، ليس لإظهار البراعة والاستئثار بأحاسيس الناس بدلاً من وَجيدهم، وإنما من أجل تأمين إيصال كلّ من الشحنة العاطفية والحمولة الفكرية والكمون التعبيري الذي تحمله أي مقطوعة موسيقية ذات قيمة جوهرية في ثنايا نغماتها، من قلب آلة البيانو إلى قلب المستمع.

بالنظر إلى ذلك التموضع القيَمي من منظار الـ شو بيزنس (Show Business)، أي الصناعة الفنية الترفيهية والاستعراضية، يظهر موريتزيو بولّيني على هيئة النائي بنفسه عن الانغماس كلّيةً بفعل العزف، كأني به لوهلةٍ بليدُ الحس خامل العاطفة. ذلك أن مقاربته شبه الرّهبانية لمهمة العازف ودوره المتركّز على البحث والتمحيص داخل المدونة الموسيقية، بهدف تحليلها، فاستنطاقها حصراً بما أراد مؤلّفها قوله والتعبير عنه، قد جعلت منه وسيطاً مغالياً في نزاهته، بين المؤلّف والمتلقي، إلى درجة يكاد أن يغيب معها حضوره كمؤدٍّ، ليبدو وكأنه لا يُعير وجود المستمع، حين يكون حاضراً بصفته مشاهداً، أيّ عناية.

لئن تمكّن موريتزيو بولّيني من تبوّؤ منزلة بين مشاهير العزف في زمنه، على الرغم من ترفّعه وتعاليه على متطلّبات الشو بيزنس، من إتقان لغة الاستعراض، والحرص على التفاعل مع جمهوره ليس بوسيط الموسيقى وحدها، وإنما بإضافة كل من الإبهار التقني والإيماء الجسدي، فإن ذلك يعود إلى بروزه في حقبة تاريخية خاصة بالموسيقى الكلاسيكية الغربية ميّزها مظهران، أولهما هو العازف النجم، الذي له أن يبلغ النجومية إثر سيرة فنية تقوم على إعادة تقديم الإرث السمعي المدوّن على مدى قرون ثلاثة ماضية. أما ثانيهما، فهو ازدهار صناعة التسجيلات الصوتية، من أسطوانات وأشرطة كاسيت، ومن ثمّ أقراص سي دي.


 
كان من شأن المظهر الأوّل أن عزّز مبدئية دور العازف المؤدي بوصفه ناقلاً أميناً لمدوّنة المؤلف، ليس فقط لدى العازفين وإنما أيضاً في المؤسسات التعليمية والأكاديمية، من أساتذة أفراد ومعاهد وجامعات، التي اضطلعت بتنشئة التلاميذ والطلبة على قدسيّةٍ تحظى بها المدونة الموسيقية. وعليه، يقتصر دور المؤدي العازف أو قائد الفرقة على استيعابها وتحليل مضامينها، ثم حفظها وتلاوتها على الناس، عبر صوت الآلة المفردة أو مجموع آلات الأوركسترا.

بمقدار البذل والإخلاص في سبيل هذا الهدف، يحقق المؤدي النجاح والتفوق المرتبطين بمدى ائتمانه على عملية إعادة إنتاج المؤلَّف، كما أراد المؤلِّف، أقلّه بتأوّل الإرشادات والإشارات التي خلّفها الأخير على المدوّنة، أو بالاحتكام إلى الدراسات البيوغرافيّة والموزيكولوجيّة (أيّ العلوم الموسيقية من تأريخ وتأصيل وتحليل) حول شخصية المؤلف ومشاربها وموسيقاه والسياق التاريخي والثقافي الذي تطورّت ضمنه.

وغالباً ما ينخرط النقاد الموسيقيون، بوصفهم "سدنة بوابات فنيّة"، عبر تغطيتهم الإعلامية وكتاباتهم الصحافية للحفلات والإصدارات، في مسعى تقييم العازف، من حيث مدى تمكّنه وتميّزه في النقل الأمين لإرث أحد المؤلفين الكلاسيكيين، وإلا فلن يكون بمقدور الجمهور من غير المؤهّلين تأهيلاً موسيقياً عالياً، حيازة أدوات الحكم والتقييم.

أما المظهر الثاني المتجلّي في تركّز الصناعة الموسيقية على إنتاج المادة السمعية الصرفة، فقد أدى إلى تقليص دور الحضور المرئي للعازف في صناعة نجوميّته، وإن لم يُقصِه نهائياً؛ إذ اقتضى تسويق الإصدارات الصوتية ترويجَها عبر تصدّر العازف بصورته أغلفة الألبومات، أو بشخصه من على شاشة التلفزيون خلال نقل حي أو مسجّل لعروضه، أو لقاءات تُعقد معه، أو تسجيلات وثائقية تُصوّر عنه، وثمّ أيضاً، حضوره على خشبة المسرح، وإن أبقى المسرح بحكم رحابته على مسافة فاصلة بين المؤدي والمتلقي، لا تُتيح الالتحام البصري التام.

بموجب كلا المظهرين المميزين للحقبة الماضية، أتيح لجيل بولّيني التركيز على الوصول إلى الجمهور عبر المحتوى الصوتي شبه الصرف، ولم يكن الجانب الاستعراضي للأداء سوى متمّمٍ ومكمّلٍ لصنع التجربة الموسيقية، لا يدخل في لبها وليس من صلبها. أما اليوم، فيختلف عن الأمس بصورة شبه كليّة، ولهذا الاختلاف بدوره مظاهر عديدة، أهمها تراجع شعبية الموسيقى الكلاسيكية الغربية كوسيط تعبيري يتمثّل في إعادة تقديم أمين لإرث قديم.

فحتى بين أوساط أبناء الطبقة الوسطى في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، التي لطالما اعتُبرت الحامل الاجتماعي التقليدي لهذا الوسيط، أخذ التحوّل الديمُغرافي يُعيد تشكيل الذائقة العامة لتغدو أكثر تنوعاً من الناحية الثقافية، فيقتصر الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية على فئة ما انفكت تقلّ مع الوقت، حتى تكاد أن تمسي أشبه بنادٍ، وتنحسر بالنتيجة نجومية عازفيها ومدى شهرتهم وحضورهم في الفضاء العام.

ناهيك بالفضاء الافتراضي، إذ باتت حقبة اليوم مرئية بامتياز، فلم يعد بالإمكان تقديم المنتج السمعي إلا في لبوس بصري حركي. علاوة على دور الاستثارة الحسية المتّكئة على الصورة والإثارة والمغالاة في الاستعراض، بغية الحيازة على انتباه الناس، المتهافت أصلاً، على مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت منصّاتها وسيلة لا غنى عنها لأي موسيقي صاعد، طموحه تحقيق ولو القدر اليسير من مسيرة مهنية، وبلوغ شيء ما من الحضور، وسط الملايين من العازفين الموسيقيين الغارقين في رحاب الإنترنت، وملايين النسخ المسجلة، القديمة والحديثة الملقاة فيه، لجلّ ما أنتجته البشرية من الموسيقى.

المساهمون