مشكلة ضعف أفلام "مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)"، المتجدّدة في الأعوام الأخيرة، مُثيرة للإزعاج والإحباط إلى حدّ كبير، خاصة مع ختام الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/ شباط 2023). المشكلة مهمّة جداً، تستلزم وقفة حازمة من منظّمي هذا المهرجان العريق.
هذا العام، المشاكل اللوجيستية مرتبطة بتعدّد القاعات وتنوّعها وبُعدها، وضرورة التنقّل بينها، وقلّة الحضور الصحافي، وتقليص الميزانية، والطغيان الفجّ للسياسة. هذا كلّه لم يُشغل البال كثيراً، مقارنة مع ندرة الأفلام الجيدة، ناهيك عن انتفاء الروائع.
تستحقّ دورة هذا العام وصفها بـ"دورة النسيان". فرغم كثرة المُشاهدات، الخاصة بصنّاع سينما راسخين، والذين يُقدّمون أعمالاً أولى لهم، في أقسامٍ مختلفة، يصعب تذكّر عنوان دُرّة فنية، أو تحفة لافتة للانتباه، أو عمل يبقى طويلاً في الذاكرة، فيَسِمُ هذه الدورة بأنّها دورة هذا الفيلم أو ذاك.
ينطبق هذا على أفلامٍ فائزة بجوائز، ذهبت بمجملها تقريباً إلى من يستحقّها. قرارات لجنة التحكيم موفّقة، وربما كانت سهلة بالنسبة إليهم، نظراً إلى مستوى الأفلام المتنافسة. "على متن أدامان"، للفرنسي نيكولا فيليبير، مثلاً (الدب الذهبي)، ليس أهم وأبرز وأجمل الأفلام الوثائقية المُشَاهَدة في الأعوام الأخيرة، في مستويات عدّة. لكنْ، مقارنة بأفلامٍ كثيرة، غلب عليها تكرار مواضيع وحبكات، وفَقْر فنيات ومعالجة وطرح، إضافة إلى ثرثرة حوارات، وتمثيل عادي، يُعتَبر فيلم فيليبير في مكانه، نسبةً إلى الجوائز.
هذا يثير أسئلة مُختلفة ومُقلقة: هل تستحق الأفلام جوائز مهرجان عريق، بحجم الـ"برليناله"؟ ما سبب هذا الضعف البيّن لأفلام هذه الدورة، والدورات السابقة؟ على أيّ أساس يبني كارلو شاتيريان، المدير الفني للمهرجان، اختياراته؟ أسئلة تؤكّد أنّ الأمر أكبر وأعقد من أفلام الدورة الـ73، ومن ذوق واختيارات وبرمجة المدير الفني، وفريقه.
مستوى الأفلام دلالة على أن مستوى الـ"برليناله" آخذ في الانحدار، وبقوّة، سنة تلو أخرى. الملاحظة هذه ليست جديدة، إذْ أثيرت مراراً في العقد الماضي. مع ذلك، لم تخلُ دورةٌ من روائع، ومن أفلام جيدة، بصرف النظر عن اسم المخرج، والقسم المعروضة فيه. تفاوت المستوى من عامٍ إلى آخر طبيعي، ويحدث في المهرجانات. لكنْ لدورةٍ عابرة، فقط. في الـ"برليناله"، الأمور ليست كذلك. رغم أنّ المهرجان لا يُعاني مشاكل تنظيمية، بل يُعتبر الأسهل والأيسر حضوراً ومتابعة وتغطية، وولوجاً إلى الصالات. حتى مع استحداث نظام الحجز الإلكتروني لبطاقات العروض، وضخامة إقبال الجمهور، وكثرة الأفلام، وازدياد دور العرض، لم يحدث أي خلل، ولم يتَعَذَّر استخدام موقع حجز البطاقات، كما حدث مع موقع مهرجان "كانّ"، العام الماضي. كما أنّ الضغط والازدحام لم يُسبِّبا تعطيلاً كالحاصل في موقع مهرجان "فينيسيا"، العام الماضي أيضاً. سلاسة حجز بطاقات الـ"برليناله" وسهولته وسرعته، وإمكانية الحجز في أي وقت، مسألة غير مسبوقة، لا تُقارن ببقية المهرجانات.
هل تكمن المشكلة الأساسية للـ"برليناله" في محاولته التوفيق بين جوانب فنية وصحافية ودعائية مختلفة ومتباينة من جهة، وإرضاء جهات حكومية وسياسية، تساهم في دعم لا يستهان به، مادياً وسياسياً، من جهة أخرى؟ أو في إرضاء أذواق جمهور ضخمٍ، يتفاعل معه (في كل دورة، هناك مبيعات تذاكر قياسية)، له متطلباته السلبية بخصوص وجود أفلام معيّنة، ذات صبغات مختلفة عن تلك التي ينشدها نقّاد وصحافيون وموزّعون ومنتجون، وأهل الصناعة؟ هل الضرورات الراهنة في العالم أضعفته وسيَّسته أكثر، كضرورة الاهتمام بالصوابية السياسية، ومراعاة التوازنات المثلية والجندرية، ونسبة الـ50 ـ 50، في التمثيل النسائي، لا سيما المخرجات، وفي لجان التحكيم والإدارة والبرمجة؟ إلى أيّ حدّ يساهم هذا كلّه، وغيره من مطالب وتوازنات غير معلنة، آجلاً أو عاجلاً، في خلق مزيدٍ من التكرار والتخبّط والفوضى والضعف، وحتى الانحدار؟ وإلى متى؟
من الأمور المنتشرة سابقاً، في تبرير بعض الضعف، تلك المتعلقة بموعد انعقاد المهرجان، إذْ يتوافق وبدايات كلّ عام (فبراير/ شباط)، حيث معظم الأفلام في التصوير أو المونتاج، فيصعب عليها الالتحاق به. الأفلام المعروضة إنتاجات تبقّت، أو لم تُبرمَج في المهرجانات الكُبرى في العام السابق. قيل إنّ المشكلة مرتبطة بانعقاده في فصل الشتاء، حيث برد برلين قارس، ودرجات الحرارة تنخفض إلى تحت الصفر. هذا لا يُحبّذه النجوم، بالتأكيد، إذ تعيقهم عن السير فوق البساط الأحمر، والتقاط الصُور بأريحية، في طقسٍ يتمتّع بالصفاء والنقاء، كما في "كانّ" (مايو/ أيار) و"فينيسيا" (أواخر الصيف)، مثلاً، ما يسمح باستعراض أحدث الملابس والاكسسوارات، وجمال الأجساد، والتباهي بآخر صيحات الأناقة والتزيّن، وبالتالي، ضمان تغطية صحافية وإعلامية أكثر اهتماماً وبريقاً ولفتاً للانتباه، عالمياً.
تردّد أيضاً أنّ أكبر استديوهات وشركات الإنتاج العالمية، الأميركية تحديداً، تحجم عن طرح أحدث وأبرز إنتاجاتها في الـ"برليناله"، مُفضّلة "كان" و"فينيسيا"، مع وجود مُكثّف وناشط في "سوق الأفلام" في الـ"برليناله"، الذي يتّسم عادة بحضور قوي لأرباب الصناعة في أميركا وآسيا، خاصةً.
ما سبق ذكرها عوامل يُحسَب لها. لكنْ، يجب الاعتراف أن الأمور لم تكن كذلك في إدارة ديتير كوسليك، المدير الفني السابق للمهرجان، بخبرته واختياراته وذوقه وشخصيته، وقبل كل شيء، علاقاته الوثيقة مع شركات الإنتاج والموزّعين والمخرجين والممثلين، التي ساهمت في جذبهم إلى برلين. أمور يفتقر إليها كارلو شاتريان وماريت روزينبيك (المديرة الإدارية)، رغم محاولات شاتريان، وحرصه الشديد على مشاركة أفلام من كافة الأنواع والمستويات، لخلق توازنات، وإرضاء أذواق مختلفة.
لا يعني هذا المطالبة بأن تكون كلّ الأفلام من نوعية واحدة، أو ذات طينة بعنيها، أو المستوى نفسه. مشكلة "مهرجان برلين" تثير تساؤلات عن سبب إصرار مهرجانات كبرى على ضرورة تحقيق توازنات، ومراعاة اعتبارات مُضرّة، إجمالاً، بصناعة السينما، وصناعة المهرجانات؟ في حين أنّه يُمكن، مثلاً، تقليص عدد الأفلام المعروضة في الأقسام، أو إلغاء أقسام، بدلاً من استحداث أقسام جديدة، كـ"لقاءات"، الذي ابتكره شاتريان. باختصار، عدم التفاخر بضخامة حجم المعروض، وتغليب الكيف على الكَمّ.
أخيراً، يجب الاعتراف بأنّ السينما العالمية ليست في أفضل حالاتها، في الفترة الأخيرة، لأسباب يطول شرحها. هذا يترتب عليه ندرة أفلام ذات عمق وفكر ومصداقية وفنّية، وهموم إنسانية حقيقية. يدرك القائمون على الـ"برليناله" الأمر. يجهدون في تجاوزه، بالانفتاح على سينمات مغايرة من مختلف أنحاء العالم، وإفساح المجال أكثر لأسماء جديدة تشارك لأول مرة، ليس في قسمي "بانوراما" و"المنتدى"، بل في "المسابقة الرئيسية". كذلك، منح مساحة أكبر للإنتاجات السينمائية المستقلة، الأميركية تحديداً، هرباً من سطوة الاستديوهات وجهات الإنتاج الكبرى.
لكنْ، هذه المحاولات لم تُثمر حتى الآن، خاصة في ظلّ سياق سينمائي عالمي متخبّط، تأثّرت به السينما المستقلة أيضاً، إنتاجاً وفنّيةً.