جاءت التصريحات الأخيرة، الأحد، للرئيس التونسي قيس سعيّد المنددة بالعنصرية متأخرة جداً. فبعد أسبوعين على طلبه من قوات الأمن طرد جميع المهاجرين غير الشرعيين، ووصف الهجرة بأنها مؤامرة لتغيير التركيبة السكانية في تونس من خلال زيادة طابعها الأفريقي والحد من هويتها العربية والإسلامية، انطلقت حملة عنصرية مسعورة ضد الأفارقة في تونس. ثمّ عادت وامتدّ جنونها ليصل إلى دول المغرب العربي الأخرى.
ففي الأسبوعَين الماضيين غرقت مواقع التواصل في المغرب العربي بعبارات عنصرية تغذيها نظريات المؤامرة التي تستهدف الأفارقة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء. وانتشرت عبارات قومية ضد أصحاب البشرة السوداء تشبه إلى حد كبير تلك التي يرددها اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا. ففي المغرب والجزائر وتونس وليبيا ازدهرت المنشورات الغاضبة مما تسميه بـ"توطين" أفارقة جنوب الصحراء في هذه الدول العربية.
ننشر هنا عيّنة صغيرة من محتوى الكراهية هذا، قبل الدخول في تفاصيلها ومصدرها وأساليب انتشارها: "احذروا الاستيطان الأفريقي، نوع آخر من الاستيطان والتوطين والتمكين الناعم المدعوم وبقوة من الغرب تحت بند الهجرة الداخلية عوضاً عن الهجرة إلى أوروبا ويولعوا وياكلوا بعضهم"، و"تونس في خطر. المستوطنون الأفارقة في الشوارع يطالبون بتقسيم البلد بينهم والتوانسة، ويطالبون بحقوقهم والجنسية"، و"متى يستفيق الجميع بمخاطر الهجرة الأفريقية غير الشرعية التي تجتاح ليبيا؟".
أخبار كاذبة
تغذي الحملة تغذّت الحملة ضد المهاجرين الأفارقة على الأخبار الكاذبة والتضليل بحسب موجة من المنشورات حللها موقع مسبار للتحقق من الأخبار. فمن بين أكثر الصور تداولاً تلك التي تظهر صورة لمهاجرين أفارقة، مع تعليق بأنهم متجهون نحو تونس وليبيا، لكن بعد التدقيق وجد "مسبار" أنّ الصورة قديمة ومنشورة منذ سنوات، لمهاجرين أفارقة في مناطق مختلفة.
ومن ضمن موجة التضليل نفسها، انتشرت مشاهد تظهر أفارقة من جنوب الصحراء يدعون إلى التوطين وحمل السلاح. منها مشهد للفنان الإيفواري ألفا بلوندي وهو يقول "السلاح سيكون رفيقكم في السفر". لكن بالتحقق وجد "مسبار" أنّ سياق مقطع الفيديو مضلل، كما أنّه قديم ويعود إلى عام 2017، بعد بث شبكة سي أن أن، لمشاهد تظهر "سوق عبيد" يباع فيه أفارقة في مزاد علني في ليبيا.
كما نشرت بعض الحسابات، مشاهد لأطفال يغنون "نحن تونس"، وذكرت أنّهم "المستوطنون الجدد للبلاد"، لكن "مسبار" وجد أن الفيديو هو في حضانة لأطفال أفارقة أغلبهم من جنوب الصحراء في تونس، وهو مشروع فتحته مواطنة من ساحل العاج عام 2018.
أصوات مناهضة للعنصرية
في المقابل ظهرت أصوات كثيرة التنديد بالعنصرية ضد المهاجرين الأفارقة، سواء من خلال منشورات عبر الإنترنت أو من خلال الخروج إلى الشارع. ومن المغرب كتب الإعلامي، عبد الله الترابي: "أغلب الناس الذين يتكلمون عن الهوية المغربية هم أنفسهم أجهل الناس بالتاريخ وبتشكل تلك الهوية. تجد من ينادي حالياً بعدم تزويج المغربيات من أجانب وينسى أو يجهل أن القصة أو الأسطورة المُؤَسِسَة للدولة المغربية هي زواج مهاجر عربي من الشرق (إدريس الأكبر) الهارب من الحرب إلى المغرب، بواحدة من بنات البلاد (كنزة الأوروبية الأمازيغية)، والذي من خلاله ستنشأ الدولة الإدريسية وتبنى بعده مدينة فاس والقرويين وغيرها من معالم الحضارة المغربية". وأضاف "بل إن السلالة التي تحكم المغرب حالياً، حسب الرواية المشهورة، هي في الأصل عائلة مهاجرة أتت من الحجاز بطلب من سكان الجنوب بنواحي تافيلالت، وتزوجت وتلاقحت مع باقي مكونات البلاد العرقية والقبلية". وتابع "نحن جميعاً كمغاربة أحفاد مهاجرين وإخوة مهاجرين وآباء وأمهات لمهاجرين، منذ الملك الأمازيغي يوبا الثاني (الذي كان متزوجاً بحفيدة كليوباترا المصرية وعاش في روما) إلى أشرف حكيمي، المغربي الذي وُلد في مدريد وتزوج تونسية".
وفي تونس نُظّمت مسيرة طالبت بضرورة الدفاع عن مهاجري جنوب الصحراء ضحايا الهجمة العنصرية والسياسات التي استهدفتهم مؤخراً، وباستجابة إنسانية تضمن تسوية إدارية لوضعية المهاجرين والكف عن الانتهاكات العنصرية. وأكد حقوقيون تونسيون رفضهم للانتهاكات التي تستهدف مهاجري جنوب الصحراء في تونس، مضيفين أن الهجرة ليست جريمة وعلى الدولة تسوية وضعياتهم.
من وراء الهجمة ضد الأفارقة؟
أوجه التنسيق بين الحملات التي تغزو الإنترنت مغاربياً غير واضحة، لكن لوحظ أنها اكتسبت زخماً واضحاً في نفس الوقت، خلال فبراير/شباط الماضي، أي بعد تصريحات الرئيس التونسي. وتساهم في إذكاء حملات الكراهية، صفحات ومجموعات في "فيسبوك" تتقارب من حيث الأسماء وانطلقت في نفس الوقت تقريباً. وتحمل الصفحات والمجموعات أسماء مثل "توانسة ضد توطين أفارقة جنوب الصحراء"، و"مغاربة ضد توطين أفارقة جنوب الصحراء"، و"شمال إفريقيا ضد توطين أفارقة جنوب الصحراء".
وبنظرة خاطفة على معلوماتها يظهر أنها أُنشئت في تواريخ متقاربة بين 6 و25 فبراير/شباط 2023. "مغاربة ضد توطين أفارقة جنوب الصحراء" مثال على هذه المجموعات. أُنشئت في 6 فبراير/شباط وتدعي أنها "مجموعة غرضها هو التحسيس بخطورة التطرف الأفروسينتريك الذي يستهدف المغرب".
و"الأفروسينتريك" حركة تأسست على يد الناشط الأميركي أفريقي الأصل، موليفي أسانتي، في فترة الثمانينيات، وتسعى إلى "تسليط الضوء على هوية ومساهمات الثقافات الأفريقية في تاريخ العالم".
وتدعي المجموعة الفيسبوكية أنه "يمنع منعاً كلياً في المجموعة خطاب التحريض والكراهية والعنف والعنصرية والتشهير نحن غير مسؤولين عن ذلك". لكن من الأمثلة على منشورات المجموعة مستخدم يقول: "نشرت عرض عمل ووصلني الكثير من الطلبات من أفارقة. أقسم أنني لن أمنح عملاً لأحدهم رغم أنهم يكافحون ولا يتقاضون أجراً كبيراً. لن يعمل عندي إلا ابن بلدي".
أفكار اليمين المتطرف
حاولنا تتبع هذه الصفحات للوصول إلى حسابات مؤسسيها، ليتّضح أن هؤلاء متأثرون بشكل واضح بفلسفة تفوق العرق الأبيض في الغرب. في المغرب، مثلاً يحمل حساب أحد المشرفين على مجموعة "مغاربة ضد توطين أفارقة جنوب الصحراء" في "فيسبوك" اسم "اليمين المتطرف المغربي"، فيما كتب مشرف آخر في تعريفه عن نفسه بأنه "يعمل" في موقع "4 تشان". و"4 تشان" شبكة اجتماعية معروفة بكونها تجمعاً لأنصار اليمين المتطرف وفلسفة التفوق الأبيض، وللناشطين فيها علاقة مباشرة مع منفذي هجمات ضد الأعراق غير البيضاء في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا.
وحتى فكرة "الاستيطان الأفريقي" التي تروج لها منشورات ضد أفارقة جنوب الصحراء تبدو مطابقة لنظرية "الاستبدال العظيم" التي يتبناها اليمين المتطرف في أوروبا. وقد بنيت نظرية "الاستبدال العظيم" حول هجرة غير البيض إلى أوروبا من الشرق الأوسط وأفريقيا في محاولة شريرة لتدمير التركيبة السكانية والثقافة الأوروبية الأصلية. وتتحدث هذه الفلسفة عن "نهاية العالم الأبيض نتيجة غزو الملايين من الناس الجائعين (المتخلفين)، الذين يشكلون ثلاثة أرباع البشرية". وانتشرت هذه الفكرة بين الأميركيين البيض والجماعات المناهضة للمهاجرين في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ولا تزال حية حتى يومنا هذا.
ووفق مركز قانون الحاجة الجنوبي Southern Poverty Law Center (مقره الولايات المتحدة)، هذه الأفكار التي ظهرت في كتب نُشرت في عامي 2010 و2011، أثّرت بشكل مباشر على نمو حركة الهوية الأوروبية اليمينية المتطرفة المناهضة للهجرة في العقد التالي، وباتت تجذب جيل الشباب.