منصة "نتفليكس"... رقابة بحسب الرغبات السياسية

17 ديسمبر 2021
طالبت المنصة بحذف مشهد يسخر من فيلم "سيفين" في "بوجاك هورسمان" (نتفليكس)
+ الخط -

يقود رافاييل بوب واكسبيرغ، مبتكر سلسلة الرسوم المتحركة "بوجاك هورسمان" Bojack Horseman حملة انتقادات شرسة ضد منصة "نتفليكس"، إذ غرّد أخيراً ليصف انعدام إيمانه بشعار المنصة الأهم: "الحرية الإبداعية"، مؤكدًا أن تجربته الشخصية معها لا تدعم تلك المقولة.

جاء تصريح واكسبيرغ المثير للجدل، بعد دعم شبكة "نتفليكس" للممثل والكوميدي ديف شابيل، وتنحية نفسها عن محتوى اسكتشاته الكوميدية، بما رأى فيها بعض من تلميحات معادية للعابرين جنسياً ولمجتمع الميم عموماً، خاصة استعراضه الأخير الذي حمل عنوان The Closer.

وعلى الرغم من الجدل المثار منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن "نتفليكس" ظلت تدافع عن شابيل، ونفسها عبره، بحجة أن نكات الممثل الكوميدي في The Closer لم تقرب "حدود الكراهية" حتى. وصرح تيد ساراندوس، أحد المديرين التنفيذيين في "نتفليكس"، لصحيفة "وول ستريت جورنال": "لقد أوضحنا لموظفينا أنه ستكون هناك أشياء لن تحبوها... أشياء قد تبدو ضارة، إلا أننا نحاول الترفيه فقط وسط عالم بأذواق وحساسيات ومعتقدات مختلفة".

اشتدت التداعيات في أواخر أكتوبر بعد قيام المنصة بفصل بي. مينور، موظف ساعد في تنظيم إضراب احتجاجاً على دعم الشركة لشابيل. إلا أن الشركة ردت على الادعاءات، وزعمت أن فصل مينور جاء على خلفية تسريبه لمعلومات سرية.

استجابة للقضية المثارة، كتب صانع مسلسل الأنيميشن الأشهر في "نتفليكس": "ما زلت حائراً بخصوص صفقة ديف شابيل، والتي تتلخص في أنه، على ما يبدو، يقول كل ما يريد ونتفليكس تبثه فقط، ومن دون تحرير. هل هذا عادي بالنسبة للكوميديين؟ لأن نتفليكس طلبت مني ذات مرة تغيير نكتة خوفًا من أنها قد تزعج ديفيد فينشر".

زادت تصريحات واكسبيرغ حدة الموقف، وبعد سلسلة من المماحكات على "تويتر"، تعهد مبتكر "بوجاك هورسمان" بالكشف عن المشهد المحذوف من قبل "نتفليكس"، شريطة أن يتبرع مائة شخص لمنظمة Lifeline Trans، وهي منظمة غير ربحية توفر الموارد والمساعدات والدعم العاطفي والنفسي للأشخاص العابرين جنسياً. شكر واكسبيرغ جمهوره من المغردين والمتبرعين، وبعد جمع أكثر من ألفي دولار للمنظمة، شارك مقتطفات من السيناريو الأساسي، تُظهر إحدى شخصيات المسلسل الرئيسية (برنسيس كارولين) تهزأ من فيلم se7en للمخرج فينشر.

سينما ودراما
التحديثات الحية

لم يمض وقت طويل، قبل أن يعترف واكسبيرغ نفسه بأن المشهد سخيف، وبأن "نتفليكس" كانت محقة في حذفه لضعفه من الناحية الفنية، إلا أنه أوضح أن اعتراضه منذ البداية لم يكن استياءً، بل سخرية من المنصة ومزاعمها الكثيرة حول وقوفها "موقف الحياد" أمام المحتوى الفني المتاح عبرها بحجة "التعبير الحر". وتابع، مشيراُ إلى علاقة "نتفليكس" بشابيل: "من السخف أن تتظاهر الشبكة بأن يديها مقيدتان عندما يتعلق الأمر بالمحتوى الذي تبثه على منصتها".

وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها الشبكة بحذف مشاهد، أو حلقات، بناء على معطيات عدة، منها تحليل بيانات المشاهدة، أو امتثالاُ للقوانين المحلية الأخلاقية والسياسية المعمول بها في مختلف البلدان. إذ يتعين على "نتفليكس"، بغية المحافظة على توسعها في جميع أنحاء العالم، التكيف مع مختلف المجالات السياسية والأخلاقية، وتطبيق الرقابة بما يتناسب مع معايير البلدان المعنية.

في هذا السياق، يوضح تقرير الشبكة السنوي لعام 2018، حاجة "نتفليكس" إلى كل من الرقابة وتكييف المحتوى لمراعاة الاختلافات الثقافية والمحددات اللغوية، واعتبار هاتين الأخيرتين مخاطر تجارية، خاصة مع توقف نمو المشتركين في الولايات المتحدة الذي يتطلب من الشركة الاستمرار في التوسع بشكل كبير في الخارج لإنماء الاستثمار ومجاراة المنافسة.

وفق القانون، إذن، تعدل "نتفليكس" محتواها بشكل مرن. أمر شهدناه بوضوح على المنصة في تركيا والهند وسنغافورة وغيرها من البلدان. ففي 2019، تلقت الشبكة طلباً من هيئة تطوير وسائل الإعلام في سنغافورة، لإزالة فيلم "إغواء المسيح الأخير" من الخدمة في سنغافورة فقط. وعام 2017، امتثلت الشركة لطلب كتابي من الهيئة الفيتنامية للبث والمعلومات الإلكترونية لإزالة فيلم Full Metal Jacket من الخدمة في فيتنام. وفي العام نفسه، أزيل Night of the Living Dead من الخدمة في ألمانيا فقط، وذلك بطلب من اللجنة الألمانية لحماية الشباب. كما أن "نتفليكس" وقعت اتفاقية طوعية مع الهند، تتعهد بعدم عرض المحتوى الذي ينتهك الأديان أو يهين العلم الوطني.

أعادت حملة واكسبيرغ إحياء الجدل القائم منذ سنوات تجاه "نتفليكس" وممارساتها الرقابية، حتى أن البعض بات يتهمها بمحاباة الأنظمة السياسية على حساب متطلبات مشتركيها، فضلاً عن الانحياز الأيديولوجي في ترويجها، المباشر وغير المباشر، لبعض المفاهيم الثقافية والاجتماعية عبر محتوى ما تبثه. إلا أن الاتهام الأسوأ؛ يكمن في إشارة بعضهم إلى الازدواجية التي قد تنطوي عليها سياسات الشبكة، عندما يتعلق الأمر بمفاهيم الصوابية السياسية، متذرعة بالحرية الفردية وبفكرة كونها "منصة للجميع"، من دون قيود.

على الرغم من الإنجاز الثقافي والفني الكبير الذي حققته "نتفليكس" على مدار السنوات الماضية، إلا أن حقيقة كونها مشروعًا اقتصاديًا يسعى إلى الربح بالدرجة الأولى، تمثل خاصرتها الأضعف، فتجعلها عرضة بشكل مستمر إلى انتقادات جمهورها وإلى تضارب المصالح، وتضعها موضع التساؤل دوماً: ماذا سيحدث حين تتعارض تلك المصالح جذرياً مع القيم التي اجتذبت للمؤسسة جمهورها الحالي؟

المساهمون