في فيلمه الروائي الأول الطويل، "مندوب الليل"، أكد السعودي علي الكلثمي على موهبة إخراجية لافتة. صحيح أنّ له أفلاماً روائية قصيرة، وتجارب تلفزيونية أيضاً، حققت له رواجاً، ورسّخت اسمه سعودياً وخليجياً، إلاّ أنّ "مندوب الليل" يُدشِّن تجربته الإخراجية على نحو مختلف، سيما وأنّ فيلمه هذا مُحكَمٌ وفنّي وعميق، ما يُؤكد موهبة وصدقاً، في انشغاله بهموم وقضايا حياتية ومُجتمعية، إنسانية أولاً.
أول عرض لـ"مندوب الليل" حصل في الدورة الـ48 (7 ـ 17 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، في برنامج "اكتشافات"، الذي يتمتّع بتاريخ غني في عرض واكتشاف الأفلام الطويلة الأولى والثانية لمخرجين شباب، انطلقوا منه ليصنعوا أسماءهم عالمياً، كالإيراني جعفر بناهي، والأميركي ـ البريطاني كريستوفر نولان، والمكسيكي ألفونسو كوارون. هذا يدلّ على أنّ الاختيارات تخضع لمعايير فنية وجمالية وإنسانية أساساً، وهذه مُتوفّرة في "مندوب الليل"، رغم هنات قليلة تُصاحب الأفلام الأولى عادة.
يصعب وصف "مندوب الليل" بكونه فيلم كوميديا سوداء، رغم أنّه لا يخلو من مواقف طريفة، وجُمل حوارية مُضحكة. كما أنّه، لرغبةٍ في خلق الكوميديا السوداء وفرضها فرضاً في فصول كثيرة، يقع في الاصطناع والإقحام والتكرار وسهولة التوقّع. أساساً، يُصنّف كفيلم دراما اجتماعية، مُغلّفة بكوميديا سوداء، أكثر من أنْ يكون إثارة وغموضاً ومُطاردة. ورغم توفّره على عناصر كثيرة كهذه، إلاّ أنّها لم تُصنع بالشكل الأمثل، عامة. رغم هذا، إنّه مُتماسك للغاية، ومُقنع ومُؤثّر ومُمتع ومُشوّق، وغير مُملّ.
باستعراضه الحياة الليلية في الرياض، يُقدّم الكلثمي نظرة على المجتمع السعودي، والحياة السفلية السرّية فيه، بطريقة مغايرة وصادقة وجريئة، تدقّ ناقوس خطر متعلّق بالهوية الفردية والجمعية، إذ يتناول تأثير التغيّرات السريعة، الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، الحاصلة في المملكة العربية السعودية، والصعوبات التي يواجهها البعض، أو الغالبية، خاصة الشباب، في التكيّف مع الواقع الجديد، ومُتغيّراته.
من الأمور المطروحة أيضاً، مفاهيم الغاية والوسيلة والحلال والحرام والمُبرّرات والضعف البشري. كما يتناول، بجدّية، العلاقة بين الرجل والمرأة. مثلاً: أين تبدأ زمالة العمل، وأين تنتهي؟ ما الفرق بين الصداقة والحبّ؟ العلاقة الطبيعية والعلاقة الرومانسية؟ كذلك، دور الطبقة في تحديد العلاقة بين الجنسين. من هنا، يُلاحظ ذكاء الكلثمي، وشريكه في كتابة السيناريو محمد القرعاوي، في كسر الحدود، ومخالفة المتوقّع، وتخطّي المطروق والمسكوت عنه بجرأة، من دون ادّعاء وافتعال بالِغَين، عبر تناول الأفراد والبيئات والمهن والثقافات الفرعية، والهامشية والثانوية والسرّية في المدن السعودية، التي لا تراها الأغلبية في خضم الحياة اليومية. ورغم اقتصار الطرح على الرياض، تتجاوز الفكرة العامة حدود المملكة، وتنسحب على عواصم ومدنٍ عربية، وعالمية ربما، ما يمنح الفيلم طابعه الإنساني العريض، الذي يتماس مع البشر ومجتمعاتهم، عامة.
تدور الأحداث كلّها في ليل الرياض، والأمطار غزيرة. جولات بصرية في الأحياء البسيطة والمُهمّشة لأصحاب الدخل المنخفض والطبقات العاملة، أو من لا تزال حياتهم تتّسم بالحرمان، وفرص العمل غير المناسبة، وصعوبة تسلّق السلّم الاجتماعي. وذلك في مُقابل الأحياء الفارهة، المُكتظّة بناطحات السحاب، ومراكز التسوّق الفاخرة، والفنادق الجذّابة، والمطاعم باهظة الثمن، التي يسكنها ويرتادها الأثرياء ونجوم المجتمع، وغيرهم من أصحاب الحيوات الباذخة، التي لا يُمكن تخيّلها.
فهد الجدعاني (محمد الدوخي) شاب بسيط ومستقيم، من الطبقة الوسطى. لفرط صدقه واستقامته وعفويته، يصعب عليه، أحياناً كثيرة، كبح مشاعره، والتحكّم في عواطفه، والسيطرة على أفعاله وأعصابه، ما يجعله يبدو شخصاً مُختلاً أو مضطرباً نفسياً أو مجنوناً. إنّه ليس كذلك، إذْ نتعرّف تدريجياً على كَمّ الصعوبات والضغوط والمشاكل التي يكافح، فعلياً، للتوفيق بينها وبين مسؤولياته وطموحاته ومشاعره، لا سيما أنّ شخصيته تقليدية، لها مُعتقداتها الخاصة، ومتمسّكة بمبادئ لا تحيد عنها، في عالم صعب، وطاحونة زمنية تدور بجنون لتسحق الجميع، ومجتمع مُركّب ومتطوّر لا يكترث، كغيره من المجتمعات المتقدّمة، إلاّ بأصحاب المال والجاه.
يعمل فهد في مركز اتصال. يتعقّد وضعه، وتأخذ حياته منعطفًاً غير متوقّع، بعد وقوع حادثة في العمل، يُجبرَ بسببها على الاستقالة، فيضطرّ لممارسة العمل الوحيد المُتاح: سائق توصيل طلبات، أو مندوب توصيل عبر تطبيق "مندوب". هذا بالكاد يكفي لتغطية نفقاته الخاصة من ناحية، ومساعدة والده المريض في الحصول على العلاج الطبي اللازم، من ناحية أخرى. ذات ليلة، التقط فهد صدفة مأمورية توصيل، كشفت له الجانب المظلم من المدينة، المزدهر بأنشطة خطرة وتجارة غير مشروعة. ما جعله يفكّر في حَلّ مشاكله المالية المستعصية بانخراطه في هذه التجارة. التكلفة كبيرة، والمخاطرة عالية جداً، ربما تُطيح مستقبله، وربما حياته وحياة أسرته.
يتورّط في التهريب السُفلي للكحول، فاستهلاكه لا يزال محظوراً. أنشأ المهرّبون مختبرات منزلية، يمزجون فيها المكوّنات معاً، ويُوَلّفون مشروبات مزيّفة ذات طعم ورائحة تشبه المشروبات الحقيقية. المشترون لا يمانعون، لأنّ الخيارات محدودة. يدخل فهد إلى هذا العالم المجهول، ليس من باب صناعة المشروبات، بل ترويجها لنفسه بعد سرقتها. فتأخذ حياته منعطفات غير متوقّعة وخطرة، تؤدّي قطعاً إلى عواقب وخيمة جداً.
صوغ حبكة حول شخصية مندوب توصيل طلبات، تحديداً، منحت الكلثمي بطلاً مثالياً للتنقّل بحرية في أرجاء المدينة، ورؤية التركيبة السكانية المختلفة، ومعاينة السلوكيات الاجتماعية المتباينة. من هنا، يتجلّى "مندوب الليل" كفيلم شخصية، أكثر منه كفيلم كوميدي وإثارة وتشويق وغموض وجريمة، خاصة مع الاقتراب التدريجي من شخصية فهد وعوالمه وأسرته، عبر قصة قابلة للتصديق، رغم كلّ شيء، وشخصية مركزية رائعة ومفجوعة في الوقت نفسه. لذا، يسهل التواصل معه وتصديقه، رغم هنات قليلة: التسلسل الخاص بمَشاهد المطعم طويل نسبياً، إذْ يدعو فهد زميلته السابقة في العمل مها (سارة طيبة)، المُغرم بها، إلى مطعم فاخر. تحضر مها رفقة أصدقاء العمل، فيُصعق فهد. تزداد الأمور تعقيداً بتجاهلهم إياه تقريباً، وتحدّثهم بالإنكليزية معظم الوقت.
رغم هذا، حقّق الكلثمي ما أراده عبر مَشاهد المطعم هذه: توضيح التفاوت المادي والطبقي الشديد بين الأفراد العاديين، والشباب ذوي السنّ والوظيفة نفسها في المجتمع، وفضح عوامل التصنّع والزيف والتغريب، الوافدة حديثاً، على مجتمع الرياض، والمملكة عامة، ما يُساهم أيضاً في مزيد من التصدّع الاجتماعي، جرّاء تفشّي الانقسام الطبقي.
فنياً، التسلسل المشهدي، من البداية إلى النهاية، متوقّع ومكرّر، وينطوي على تكلّف واصطناع، خاصة للكوميديا. مَشاهد أخرى تجمع فهد وشقيقته سارة (هاجر الشمري)، ملتبسة جداً، إذْ إنّ علاقته الشائكة، وغير المستقرّة، بها غير مبرّرة ومفسّرة، ويشوبها غموض كثير: لماذا تعامله بجفاء وحِدّة هكذا، معظم الأوقات؟ هل تعتبر اهتمامه بها وبابنتها، ورغبته في توصيلها، والاعتناء بها وبمستقبلها ومشروعها، محض تسلّط ذكوري منه؛ أمْ أنّ طلاقها سبّب احتكاكات وصدامات سابقة، ألقت بظلالها على علاقتهما؟
من المشاهد المحورية الجميلة تصوير فهد في "قاعة ديسكو". ذات مساء، يُطلَب منه توصيل زجاجات مشروبات كحولية إلى حفلة ليلية، في مُجمَّع سعودي فخم وسرّي (تحت الأرض). عند دخوله الحفلة، يظهر أنّه منخطف ومُصاب بدوار، وهذا ليس بسبب السُكر، بل لفرط الذهول أمام ما رأى. إنه هناك بكل كيانه، لكنّه بعيدٌ جداً عن أنْ يكون حاضراً. يُشاهد المراهقين يحتفلون على حلبة الرقص، بمنتهى العنفوان وبكل طاقاتهم، وهم يشربون ويرقصون، ووجوههم تتوهّج بالمكياج والعرق. يشعر بالانفصال والخوف. إنّه في غير مكانه، وليس جزءاً من هذا العالم، حتى وإنْ كان في مركزه للحظات، وكونه مصدر مُتعة الجميع، والجميع يتوقون إلى خدماته.
في أجزاء منه، يُعاني "مندوب الليل" مشكلة في الإيقاع، وكثرة مشاهد قابلة للتنبؤ بها إلى حدّ ما، ولا تحتوي على قدر كبير من التأثير والتطوّر، كما ينبغي أنْ تكون. لكنّه ينبض بحيوية وصدق، بفضل الأداء الرائع لمحمد الدوخي، الذي أضاف تعاطفاً وضعفاً وإقناعاً إلى شخصية فهد، وإن كان أحياناً، رغماً عنه، ولأنّه كوميدي أساساً، فكان يصعب عليه الفصل بين الأداء الدرامي أو التراجيدي الطبيعي والعادي، والأداء الكوميدي. فهو لم يتخلّص من جلده القديم، في بعض المشاهد، وكان يُفترض بالكلثمي أنْ يتدخّل لضبط الأداء، خاصة قسمات الوجه، والتعبيرات المبالغ فيها بالعين، كي يخرج الأداء على أكمل وجه.