مصطفى رزق: الجاز لا يعرف مكاناً

29 مايو 2022
وجدت في الجاز ما يلائم طبعي (العربي الجديد)
+ الخط -

في عام 1998، أسس مصطفى رزق فرقة "ونسة". تجربة غنائية استلهمت التراث الصعيدي، حاول من خلالها الموسيقي والمغني المصري، تقديم حالة مغايرة للسائد. وككل من يسعى إلى اقتراح ما هو مختلف، منعه السبيل غير المطروق عن التقدم أحياناً، لكن رزق استبقى شغفه ليقوده إلى مغامرات فنية جديدة. "العربي الجديد" التقته للتعرف إلى تجربته. 


• في فترة التسعينيات كانت البداية. ما الذي يمكن أن تخبرنا به عنها؟ وعن أجواء الغناء في تلك الفترة.

- بدأت الغناء في مرحلة الجامعة، كنت أغني القديم الذي يجري الترويج له بوصفه التراث. تعلمت بعدها العزف على العود، ثم عدلت مساري ناحية التراث الصعيدي، الذي نشأت عليه، وقدمته أسماء مثل الشيخ أحمد برين والشيخ الرنان وعبد الجليل الترعاوي.

ارتباطي بهذا اللون الغنائي يعود إلى نشأتي في مدينة إدفو، التي تقع في منطقة وسط بين الصعيد والنوبة، ما جعل لها طابعاً مميزاً، حيث ستسمع بها مقامات، لا هي شرقية كمقامات الصعيد، ولا خماسية مثل النوبة.

في تلك الفترة، مارست الغناء تحت تأثير المقولة الرائجة، "استلهام التراث"، محاولاً أن أخط لنفسي مساراً يختلف عن الشائع وقتها، مُمَثلاً في ما كانت تقدمه أسماء مثل علي الحجار ومحمد منير ومدحت صالح ومحمد الحلو.

تمسكي بخطي الغنائي، حال دون اندماجي في الحالة الغنائية السائدة. وفي تلك الفترة، ذاعت ظاهرة الفرق الفنية، فأسست فرقة "ونسة" في عام 1998، ضمن حالة اجتذبت كثيرين، فكانت هناك فرقة "شرقيات" لفتحي سلامة، وفرقة يحيى خليل وفرقة يحيى غنام، وفرقة "أنجيلكا" لأحمد سلام، و"فلمنكا" لوائل خضر.

حاولت، عبر مشروعي الغنائي، تطوير الموسيقى التراثية وتقديمها من خلال منافذ فتحت أبوابها لهذه النوعية من الموسيقى، مثل: الأوبرا ومهرجان القلعة ومركز الجزويت في القاهرة والإسكندرية، وساقية الصاوي. لكن لم أجد مردوداً يشجعني على الاستمرار، فتوقفت بعد خمس أو ست سنوات، ووجهت كل وقتي إلى عملي مهندساً معمارياً.

خلال هذه المدة، لم أستطع العودة إلى العزف أو التأليف الموسيقي، بسبب عجزي عن تكرار ما كنت أقدمه على مدار سنوات. رغبت في الانتقال إلى مساحة جديدة، وعلى مدار ست سنوات ألزمت نفسي بالتعرف أكثر على موسيقى الجاز والبلوز، ولا أستمع لغيرها.

فترة السماع الطويلة، أدخلتني في حالة جديدة، بدأت بعدها في تلحين موسيقى مختلفة، أزاوج فيها بين الجاز والبلوز من ناحية، وموسيقاي التراثية من ناحية، معتمداً قاعدة مغايرة لما اتبعته في مبتدأ تجربتي؛ أن الجديد أولى من القديم بصياغة مختلفة.


• لماذا موسيقى الجاز تحديداً؟

- على المستوى الشخصي، لست قادراً على اتباع نمط معين، ووجدت في الجاز ما يلائم طبعي؛ فموسيقاه تعتمد على الارتجال بصورة أساسية. المقطوعة التي ستغنيها اليوم لن تقدمها كما هي غداً. وبعد 2011 رأيت أن الأجواء مناسبة لتقديم هذا اللون الموسيقي، فالثورة حرضت الناس على قبول التغيير، وعلى الحماسة لما هو مختلف. وبالفعل، وجدت تجاوباً كبيراً من الجمهور، وهو أمر لم يقتصر علي، فكثير من التجارب التي برزت في ذات التوقيت لاقت نجاحاً، تبع ذلك صدور ألبومي "باب اللوق" في 2014.


• هل استتبع تغيير الموسيقى تبدل الجمهور؟

- في هذه الفترة، ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح هناك جمهور لمختلف أنواع الموسيقى، أغلبه من أعمار صغيرة نسبياً، جمهور "هو نفسه جديد". وفي تصوري، إن أهم ما يميز هذا الجمهور، أنه لم يقف عند عتبة ما أسميه "موجة حميد الشاعري"، إذ واكب تفتُّح وعيه ظهور الإنترنت، ليتعرف إلى الموسيقى الغربية، ولم يقع تحت تأثير موسيقى حميد الشاعري التي أراها سطحية وانتهازية، وإن سيطرت على الذوق الموسيقي منذ التسعينيات.

مع 2011، سقطت هذه الموسيقى من الذاكرة، برغم أن نجومها ما زالوا موجودين، وفي سن تسمح لهم بتصدر المشهد الغنائي. اختفوا باستثناء نجوم كانت لهم مشاريعهم الموسيقية، قبل "موجة حميد"، وإن سايروا الموجة، ما أثر على تاريخهم الغنائي بالسلب، لذلك تجد جمهورهم يستعيد لهم أغاني البدايات فقط.


• إلى جانب الغناء عملت مهندساً معمارياً. هل وجدت جسراً للتواصل بين المجالين؟

- أؤدي مهنتي كمهندس معماري بذات الأداء، فاتجهت إلى تصميم مبانٍ على غرار عمارة حسن فتحي المرتبطة بجغرافيتي، لأن هذا النوع من العمارة أطلقه الجنوب، وعماله المهرة في بناء القباب من بلدي إدفو.

• في ألبوم "باب اللوق"، جمعت الربابة مع الترومبيت والعود مع البيانو والناي مع الساكسفون. هل هذه المزاوجة مشروعة؟ وما المعنى وراءها؟

- أتصور أنها مشروعة، وهناك من قام بها غيري في محاولة لتطوير موسيقانا، فحتى اليوم لم نستطع نقلها إلى درجة من التطور نجاري به ما يحدث في العالم، إذ تدور موسيقانا في دائرة مفرغة، تحكمها معادلة تجارية، ولا يشغل أصحابها أنفسهم بامتلاك وجهة نظر مختلفة أو جديدة في الموسيقى.

وبالنسبة إلى الجاز؛ فهي موسيقى لا تعرف المكان، وصالحة لأن تتزاوج مع أي نوع آخر، من دون أن يعني ذلك التخلي عن الطابع المميز للموسيقى المحلية.

وفي تصوري، أنه لدى ظهورها، أنقذت الموسيقى الغربية، حيث احتوت على طاقات إبداعية لانهائية، وإن كان الغرب استطاع تطوريها والاستفادة من إمكانياتها المفتوحة، وهو ما أحاول القيام به.


• ما الذي يمنحه لونك الموسيقي للجمهور ولا تستطيعه الموسيقى السائدة؟

- أي شيء تجاري يستهدف في المقام الأول الإبهار، والهدف من وراء ذلك الترويج للمنتج، وليس بالضرورة أن يكون له قيمة أو يحمل معنى حقيقياً، والموسيقى التجارية، مثلها مثل كيس الشيبسي والبسكويت.. يرتبط الانجذاب لها بسن معينة لكن، لا يكتب لها الاستمرار وسرعان ما يتجاوزها الناس.

مع ذلك، أرى أن أي فن لا بد له من تحقيق البهجة، وموسيقى الجاز تحقق هذا الجانب من دون أن تقع في السطحية أو الابتذال، فهذا اللون الموسيقي، بما يتيحه من مساحة واسعة للارتجال، يبرز تنوع الإمكانيات التي يتمتع بها الفنان، ويستطيع من خلال ذلك إمتاع الجمهور.


• على مدار مشوارك الغنائي الممتد منذ التسعينيات، ما هي الفترة التي لمست فيها رواجاً لما تقدمه؟

- في فترة التسعينيات، حتى ما قبل الثورة، كان جمهوري محدوداً. ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ونجاح اللون الجديد المرتبط بموسيقى الجاز، وجدت تجاوباً كبيراً، وازداد نشاط الحفلات.


• هل ما زال التجاوب قائماً حتى اليوم أم انحسر؟ وما المشكلات التي تواجه مشروعك الفني؟

- بالفعل هناك حالة انحسار، وإن كانت ليست مقتصرة على الفن فقط. وبالنسبة للحفلات، هناك تضييق على إقامتها، مع رفع الرسوم والضرائب على الفرق، كل ذلك جعل المردود المادي ضعيفاً جداً، وأثر بالسلب على الفعاليات الفنية.

ومن أبرز ما يواجهنا من مشكلات، أنه في مصر، للأسف، لا توجد إدارة للمشروعات الفنية، ومن نجحوا ـ في نطاق ما يطلق عليه موسيقى الـ Under ground، حققوا ذلك بالصدفة، مثل فرقتي "مسار إجباري" و"كايروكي"، خلافا لما هو موجود في الغرب؛ حيث هناك إدارة فنية تستطيع إنجاح التجارب المختلفة، حتى مع ضعف المستوى، في حين أن شركات الإنتاج لدينا لا تمارس دورها.


• لكن هناك أشكال موسيقية أخرى، مثل "المهرجانات"، استطاعت التغلب على هذه العقبات وحققت نجاحا كبيرا؟

- بالنسبة لـ "المهرجانات"، التكلفة محدودة جدا، إلى جانب أن التفكير حول جودة المنتج ليس مطروحا، وبالتالي يستطيع مغني المهرجانات تقديم أغنية كل يوم. أما بالنسبة لي، فإلى جانب التكلفة العالية، لا بد من توافر كلمات جيدة ولحن يرضيني، كل هذا يتطلب وقتا طويلا، وهذا يُحدث تفاوتا كبيرا في ما يخص غزارة المنتج الفني، لتنتفي معه القدرة على المنافسة.


 • ما الجديد الذي تطمح إلى تقديمه خلال الفترة المقبلة؟

 - ما قدمته أقل بكثير مما أصبو إليه وأملكه من أفكار، وسبب تعثرها ظروف الإنتاج، لأنه في هذه الأيام لا يوجد منتجون في مصر على الإطلاق، وأي مشروع غنائي جاد مرتبط بقدرة صاحبه على الإنتاج، مع ذلك أسعى خلال الفترة المقبلة إلى إصدار غنائي، انتقل من خلاله إلى مساحة جديدة، أقترب فيها بموسيقانا من "التانغو".

المساهمون