لا تشعل فكرة العودة إلى المكتب مع كل صباح حماس الكثيرين من ذوي الياقات البيضاء، خصوصا أولئك العاملين في ظروف غير عادلة أو مساحات لا تتسع لتطلعاتهم. العطلة، أو "السبب الرئيسي للعمل" في أحد أشهر تعريفاتها الفلسفية، هي منجى العاملين الوحيد من حلقاتهم المفرغة، وفسحة شخصية أخرى تتقلص اليوم لصالح أرباب العمل، وما يروّجون له من بيئات عمل معاصرة، ولمفهوم العمل من المنزل؛ إما لمكافحة الوباء، أو استجابة لوظائف العصر الحديثة.
لكن ماذا لو تمكنا عبر إجراء يتجاوز في تطرفه إطفاء حواسيبنا وهواتفنا الذكية، من إبعاد العمل عن مساحاتنا الشخصية وتركه بعيداً حيث ينتمي؟
يلتقط صناع مسلسل "سيفيرانس" Severance تلك الفكرة الجامحة، عبر خيال علمي مكتبي، يقارب حد الرعب النفسي، ويتوزع على تسع حلقات أنتجتها شركة "آبل تي في بلس" (+Apple TV)، وعرضت آخرها في الثامن من إبريل/نيسان الحالي، على أن تُتبع بموسم ثانٍ عام 2023.
تجري معظم أحداث "سيفيرانس" داخل جدران شركة لومون؛ وهي شركة تكنولوجية ضخمة، تحتكر إجراءً متطوراً، ينص على شطر أدمغة موظفيها بعد أخذ موافقتهم. ينقسم الموظف بفعل الإجراء الطوعي ذاك إلى ذاتين؛ الأولى داخلية تبقى حبيسة عالم العمل، ويطلق عليها الموظفون اسم Innie، والثانية خارجية Outtie، يتاح لها تخطي ساعات العمل اليومية، فيما يبقى جسد الموظف واحداً يتنقل بين العالمين الماديين. الميزة الأهم في تلك العملية الجراحية أنها تفصل ذاكرة الشخص الداخلية عن الخارجية، فما إن يعبر موظف "لومون" مصعد الشركة، حتى تختفي ذاكرته الشخصية لتُفعل تلك المهنية التي كانت مثبطة أثناء ساعات الراحة.
يقود الحكاية مارك (آدم سكوت)، مشكلاً مع بقية زملائه المشطورين فريق عمل مثالياً لأي آلة رأسمالية، فلا ذكريات شخصية ولا مآسي خاصة، وما من عوائق أخلاقية، أو تصورات عميقة عن العالم الخارجي من شأنها أن تعيق سير الروتين اليومي لعاملي "لومون"، الذين يمضون نهارهم في الضغط على أرقام عشوائية تختارهم ولا يختارونها. كل ما عليهم فعله طوال اليوم هو الضغط على أرقام "تبدو مخيفة"، من دون معرفة مآلاتها.
لا مانع من بعض الإثارة المدروسة في ذلك العالم الرتيب أيضًا؛ إذ يلقى عاملو "لومون" مع كل تمرد على نظام شركتهم، أو التزام صارم به، حصتهم من العقوبات أو المكافآت الصغيرة، كأن يُسمح لهم بعشر دقائق من الرقص، أو جلسة نفسية على ضوء شمس صُنعي، تُفشى خلاله أسرار بسيطة عن ذات الموظف الخارجية، أو أن يُحالوا إلى غرفة الاستراحة، حيث يُمارس العنف النفسي الكلامي على الموظف كعقوبة على عصيانه.
أما باستثناء فتات الجلسات النفسية عما قد يوجد في الخارج، فتسعى الشركة باستمرار إلى إبقاء عالمها مفصولاً عن العالم الخارجي، إلا أنها تفشل في منع موظفيها من بناء عالم مصغر داخل أروقة الشركة ووسط متاهاتها الكبيرة؛ يهتم مارك لأمر الموظفة الجديدة هيلي (بريت لوير) المتمردة على إجراء الشطر، ويحب إيرفينغ موظفاً من قسم آخر، ويهتز الجميع بعد الاختفاء المفاجئ على شكل استقالة غير متوقعة لزميلهم بيتي.
تتعزز الروابط تدريجياً بين الموظفين المفرقين بأساطير الكره والتعصب ورهاب الآخر، وينجحون في خلق "وحدة عمالية"، أساسها المعاناة المشتركة، "تستعيد السلطة"، وفق كلمات كاتب المسلسل، وتتمرّد على النظام القائم بإعادة دمج الذاكرتين لمدة قصيرة، قبل شارة ختام الموسم الأول. ينجح مفهوم التكافل الإنساني، إذاً، وتُحاكى فكرة النقابات عبر تكاتف الموظفين لمواجهة الشر الأعظم؛ المتمثل أولاً في حارس الممرات، وتليه مديرة الشركة غريبة الأطوار.
لا أحداث صارخة في مسلسل "سيفيرانس"، بل استكشاف متمهل لسياسات العمل المعاصر، وطرح مبطن لمفاهيم "البيئة الودود" أو "العائلة الكبيرة"، ضمن مكان العمل. الغموض شكلاً ومضموناً هو شرط أساسي لسير الأحداث، فمن الممرات الطويلة لشركة لومون وما تخفيه من مكاتب عديدة مجهولة، ومنها واحد يجمع عدداً كبيراً من الماعز مع راعٍ "معاصر" يرتدي فوق بزته الرسمية مئزراً، إلى سر الديانة المقدسة للأب المؤسس، كير إيغان، وصولًا إلى إخفاء ماهية عمل الشركة ومجلس إدارتها الذي يرفض الظهور أمام مديرته التنفيذية، مع دلائل تشير للمتلقي بقوة إلى قراصنة الاقتصاد وشركات التكنولوجيا العملاقة.
أما موافقة موظفي "لومون" على عملية الشطر، فهي في حد ذاتها مدعاة للتساؤل حول مفهوم "تصنيع الموافقة"، وانتصار شرعي آخر لرب العمل على العامل المجرد من إنسانيته؛ "أنت لست شخصاً"، وهي رسالة هيلي المسجلة لذاتها الداخلية، التي تشي بالكثير عن بيئة العمل المستغلة واللاإنسانية، واختزال العامل إلى "شيء" يمكن هندسته وتعديله ليصبح أكثر مواءمة.
تشي الاستعارات الخيالية والعوالم المتهيئة في "لومون" بالوضع الوظيفي لذوي الياقات البيضاء اليوم، خاصة بعدما أوضح وباء كورونا هشاشة كثير من الوظائف المستحدثة، أو "الوظائف التافهة"، كما يسميها كتاب الأنثربولوجي ديفيد غريبر. ويشكل قسم Macrodata Refinement في شركة لومون مثالاً واضحاً على ذلك النوع من الوظائف المستجدة، ذات الأهمية الضئيلة في تحريك عجلة الاقتصاد الفعلية، والتي يذهب مشتغلوها ضحايا الأزمات الاقتصادية الحادة بوصفهم عاملين "غير ضروريين"، تقبع أعمالهم في درجة متدنية على سلم الأولويات الاقتصادية كما حددتها البيروقراطية الرأسمالية.
لا يكتفي "سيفيرانس" بدحض وهم الاستقرار الاقتصادي لتلك الأعمال، بل يغوص عميقاً لإظهار التبعات النفسية التي يعاني منها مشتغلو الوظائف التي "لا معنى لها"؛ إذ لا يملك موظفو قسم تدقيق البيانات في "لومون" أدنى فكرة عن ماهية عملهم أو جدواه، خاصة أن فكرة الضغط على أرقام غريبة لا تبدو مقنعة حتى لعقولهم المبرمجة، لذا يغدو عملهم الفارغ من أي معنى مرادفاً لفكرة البطالة نفسها.
وإن صحت مقولة سارتر الشهيرة في أننا "ما نفعل"، فسيكون من المستحيل على عاملي "لومون"، بوصفهم ذوات عاملة فقط، إدراك وجودهم ما داموا يتفقرون إلى الفعل المجدي، ويحرمون من جوهر وجودهم النوعي ككائنات إنسانية. الاغتراب المتأصل في جوهر البناءات الاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية، والذي يبقي العامل في منأى عن منتجه وعن بقية أقرانه، يظهر في "لومون" بشكل أكثر تطرفاً ومعاصرة، عبر إنتاج مادة مجهولة في هذه الحالة، لا تسمح ببناء أي علاقة كانت مع منتجها.
يحاكي سؤال صناع مسلسل "سيفيرانس" ذلك الذي تبحث البشرية في دوافعه منذ الأزل: ما هو التمرد؟ من يقوده؟ وعلام؟ التعاطف مع الآخر، كتاب هزيل عن التنمية الذاتية، وربما غريزة تبرز في أفراد محددين فقط، ومنهم الموظفة الجديدة هيلي، كانت كفيلة لخرق العقد التجاري الجاري، وإيقاظ الفكرة في عقول "لومون" التي تفتقد الإدراك الكامل، ولا تملك إلا معرفة صورية عن العالم الخارجي وكل ما فيه من مفاهيم وأيديولوجيات.