غرقت ملامح الجنود والضباط في مدينة السويس بحزن جارف. كانت النكسة، مثلما سميت، بالغة القسوة على نفوسهم، فظللت الحسرة تحركاتهم بين المواقع العسكرية، واستبدت الكآبة بالمدينة الساحلية بعد تهجير أهلها، وتحول بنيانها إلى خراب، ليخترق تلك الأجواء الكئيبة، صوت رخيم قوي يغني للجنود والضباط: "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي/ أستشهد تحتك وتعيشي إنت/ أستشهد والله وييجي التاني/ فداك وفدا أهلي وأوطاني/ وأموت، ويا صاحبي قوم خد مكاني/ دي بلدنا حالفة/ ما تعيش غير حرة".
من دون تكليف من جهة، انطلق المغني الشاب محمد حمام (1942 - 2007)، بصحبة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي إلى السويس، ليشدو على الجبهة بهذا البيان الغنائي الرافض للهزيمة.
أسس حمام حينها فرقة "ولاد الأرض"، مع الفدائي الشهير كابتن غزالي، وضمت الأبنودي وإبراهيم رجب ملحن "يا بيوت السويس"، والملحن حسن نشأت والمطرب محمد العزبي، وعلى "بطانية ميري" مثلما سموا الفرقة في البداية، جلسوا كل ليلة يحيطهم الضباط والجنود، يغنون للنصر المنشود، بينما نهاراً اشتغل أعضاء الفرقة بالتدريب ونقل الذخيرة ومساعدة وتضميد الجرحى.
قبلها بسنوات، كان حمام، طالب كلية الفنون الجميلة، نزيلاً في سجن النظام، حينما اعتقل مع عدد من الناشطين والمثقفين، ليفرج عنه عام 1964. رغم ذلك لم تؤثر فترة المعتقل الطويلة وما لاقاه من تعذيب في إخلاصه وانتمائه؛ فكان منه على الجبهة ما كان.
في السجن، تعرف على الفنان التشكيلي والصحافي حسن فؤاد، لتنشأ بينهما علاقة صداقة. وبعد خروجهما، قدم فؤاد مطربنا أول مرة من خلال التلفزيون في برنامج الفن والحياة، خصه بعدها الموسيقي الكبير محمد الموجي بلحن يليق بتفرد حمام، هو "يا عم يا جمال"، ليغنيه في حفل أضواء المدينة سنة 1968. حينها، التقط الجمهور صوتاً لا يماثل غيره، بلكنته النوبية وعاطفته المتوهجة وأسلوبه المتفرد في الغناء.
شجعه النجاح الباهر على التخلص من حياء اتسم به، وجعله مداراةً لخجله، يضع يده في جيبه طوال الحفل، لتخرج الصحف في اليوم التالي تتحدث عن المطرب الذي غنى للجمهور واضعاً يديه في جيبه.
أطلق المناضل الفنان بعدها ذخيرته الغنائية في الاتجاهات كافة؛ فغنى التراث النوبي والصعيدي والبدوي، إلى جانب اللونين العاطفي والوطني، وتعاون مع ملحنين كبار أمثال: محمد الموجي، إبراهيم رجب، كمال الطويل، إبراهيم رأفت، عبد العظيم محمد.. ومن الشعراء: الأبنودي، فؤاد حداد، عبد الرحيم منصور، مجدي نجيب، سمير عبد الباقي، حسن نشأت.
اجتذب حمام الأغنية الوطنية إلى مسار مختلف عما عرفته، فغمرها برقة صوته وعذوبته بدلاً من حماسية زاعقة طبعت الغناء الوطني قبله، وارتسم هذا المسار في أغان عدة، أبرزها أغنيته الأشهر "يا بيوت السويس".
أغانٍ عديدة له، مثل "الليلة يا سمرا"، و"جدف يا مراكبي"، و"آه ياللالي"، و"قولوا لعين الشمس"، و"طير يا حمام"، رشّحت صوته الشجي العذب لأن يكون أول مطرب يغني تتر لمسلسل إذاعي، هو "الأم"، ثم توالت مقدماته للأعمال التلفزيونية كذلك، فكان منها: "شفيقة ومتولي"، و"العشق"، و"السفر"، و"الهلباوي".
لم يغره نجاحه بتجاهل نبوءة أخبرته أن طريقه الفني مسدود، فاشتغل في تخصصه مهندساً معمارياً، ومنحه هذا حرية في الانطلاق بالساحة الفنية هاوياً، لا تستبد به إملاءات السوق التجاري، فطاف الشيوعي القديم المحافظات يغني للبسطاء.
تبدت الأغنية لحمام بوصفها "جريدة سياسية".. تصريح نقلته عنه إحدى الصحف وأثقل مسيرته، وإليه أرجع عبد الرحمن الأبنودي السبب في عدم ازدهار نجومية مطربنا. لهذا كان على النبوءة أن تأخذ مكانها في مجريات حياة صاحبها، ففي مطلع عام 1973، كتب توفيق الحكيم بياناً يساند فيه مظاهرات الطلبة المطالبة بتحرير الأرض، وكان حمام من بين الأسماء التي وقعت عليه، فكتب رئيس تحرير جريدة الأخبار، موسى صبري، مقالاً بعنوان "حتى أنت يا حمام"، ليَصدُر قرار بمنع أغانيه من الإذاعة والتلفزيون.
طار حمام عندها خارج البلاد، محلقا فوق الجزائر وليبيا والعراق واليمن، ناشراً بياناته أو انحيازاته الاجتماعية والسياسية. وفي فرنسا، تنقل فناننا بين مدنها، من خلال فعاليات توسطتها حفلاته، إلى جانب مؤتمرات وندوات عن تحديات وقضايا الوطن العربي، في مقدمتها القضية الفلسطينية، كما شارك أثناء تغريبته التي دامت قرابة العقد في عدد من الأفلام السينمائية منها: "ظلال في الجانب الآخر" للمخرج الفلسطيني غالب شعث، وفيلم تونسي/فرنسي، يحمل عنوان "سفراء". حينما عاد حمام إلى مصر، لم يتخل عن السياسة رغم كل ما أثقلته به، فكان من مؤسسي حزب التجمع التقدمي، لكن عندما وجه له سؤال حول جناية السياسة على مشروعه الفني، أجاب بكل صراحة أنه اعتقد أنها والفن يمكن أن يسيرا متجاورين.
خلص حمام إلى أن السياسيين -سواءً كانوا رجعيين أو تقدميين- ينظرون إلى الفن نظرة دونية، وبمرارة خبير ينبئنا أن الفنان ينحصر دوره في أن "يلم لهم الناس في المؤتمرات"، وهو ما كان يحدث معه.
بخلاف السياسة، هناك ظروف أخرى ساهمت في عرقلة مشروع حمام الفني، فعند ظهوره؛ كان للساحة أباطرة مستقرون على عروشهم، يمثلون التيار الغنائي السائد: أم كلثوم، عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ. كما أن رحيله عن مصر وغيبته الطويلة شكّلا عاملاً آخر.ولدى عودته في الثمانينيات، ألفى حمام ما عرف وقتها بالأغنية الشبابية، من أبرز نجومها حينذاك محمد منير، نفس اللون الغنائي والبدايات ذاتها، لكن منير كان منفتحاً أكثر على ما يطلبه السوق، عبر إليه من بوابته شبه الرسمية وقتها، متعاوناً مع هاني شنودة ويحيى خليل، كما كان الشاب الأسمر بعيداً أكثر عن السياسة.
ورث منير حمام في حياته؛ لونه الغنائي، فرصته التي هيأتها الظروف بعد رحيل أغلب الأباطرة القدامي، وأمست الساحة الفنية مستعدة لألوان مغايرة عما كان سائداً، بل وغنى منير عدداً من أغاني حمام مثل: "آه يالالي"، و"الليلة يا سمرة"، و"يا بيوت السويس".
يلتقي حمام في هذا التصور بفنان نوبي آخر، هو أحمد منيب، الذي ارتبط اسمه بمنير منذ بداية مشواره، واشترك الاثنان في 48 عملاً غنائياً؛ فقدم منير منيب كما أراد لنفسه، ليكتمل بمنير مشروع منيب الموسيقى. هكذا مثّل منير ذروة ما تطلع إليه منيب وحمام كمغنيين، فكان وارثهما الوحيد وتجسيداً لحلمهما غير المكتمل.