محمد الموجي... قارئ فنجان ممتلئ بزوابع الدراما

01 يوليو 2021
جاءت ألحانه مرتدية حُللاً موسيقية عصرية ومتطورة (أنس عوض)
+ الخط -

بملامحه الريفية، جاء الملحن المصري محمد الموجي، من مدينة بيلا إلى القاهرة، حالماً بالموسيقى؛ فصنع الواقع. استهلّ مشواره مغنياً في أدنى القاهرة، حيث الملاهي الليلية والحانات، لكن ألحانه سرعان ما حملته إلى القمة. وفي الذكرى السادسة والعشرين لرحيله، التي تصادف اليوم، نستحضر سلسلة أعماله، تلك المُتسمة بطموح درامي. إنها كذلك الجانب البراق من مسيرة الموجي، والتي بُنيت عليها خلاصة تطور فكره الموسيقي.

بصورة مبكرة، لاحت سمة مهمة لدى الموجي، في لحن "صافيني مرة".. تشييد مجال تعبيري عبر المركبات المقامية. ففي غناء الأغصان، يحدث تداول بين الكرد والراست، بين أشطار الغناء، بينما يتجلّى التوتر على النوى أثر: "وأبقى جنبك ولا نيش عارف إيه مخبي". ليست تلك جُل حيله اللحنية، فبالنسبة للموجي، حد تعبير عبد الوهاب، لا يوجد وسط، فإما لحن كبير أو لا شيء... إنه ملحن السنتمترية.

ومع أن ملحن "اسأل روحك" وضع نفسه في أكثر من وجه موسيقي، حافظ على نقاء جذوره الريفية التي تشرّبها موسيقياً، واستنطقها مثل جسور متباعدة في قافلة ألحانه التعبيرية. 

في الخمسينيات، انطلقت مغامرة الموجي اللحنية، بالمواكبة مع حدوث ثورة يوليو. فالتحولات على صعيد الواقع عمّت كل شيء، بما فيه الموسيقى. راجت الخطابية، لكنها على صعيد الموسيقى اتبعت حساً تعبيرياً يطمح إلى إحالة اللحن إلى مشهد. 
ومع المغالاة التي يحملها هذا التصور، كانت بالنسبة للموجي كينونة، وليست غاية فقط. وهو ما خوله لأن يبلغ ذروة التعبير الدرامي في ألحانه. لكن هذا الخط يفرض علينا أن نُغفل عدداً من أهم ألحانه، خصوصاً تلك التي أدّتها أم كلثوم. وبالتأكيد، اتخذت الخمسينيات ملامح تجريب، وتطوير للرؤية الدرامية، والتي اتسمت بمسحة رومانتيكية حالمة.

في هذا السياق، نجد أن لحن "كان في زمان قلبين" يوظف تصعيداً متدرجاً بعلو لكل جملة لحنية عن سابقتها، وهو دلالة على تأزيم الموقف. ومع التقدم في الزمن، يطور الموجي رؤاه. مثلاً، اللافت في لحن "الليالي" (1958)، توظيف جملة موسيقية مقلوبة تبدأ في المقدمة الموسيقية، ثم تعود لتظهر مراراً في الفواصل الموسيقية لغناء المذهب: "بس قلبي لسة خايف من الليالي". وتقوم بدور جوهري في ربط أجزاء اللحن ببعضه كجسور، من خلال توظيف لحن التتالي في الجملة الموسيقية للغصن الأول.

لاحقاً، يبرز لحن أغنية "حبك نار" على مقام الكرد. يبلغ الموجي مرحلة نضج موسيقية عالية. تدخل لحن الجملة الموسيقية بشحن مضطرم، وتمت معالجتها بأسلوب التريل، أي تزامن عزف درجتين نغميتين متجاورتين. لكنه يعاود أسلوبه في تداول مقامين؛ فمع مقام العجم يبلغ المشهد ذروته في "يا مدوبني بأحلى عذاب.."، لينتقل إلى الكرد في "آه يا حبيبي بحبك". 
وهناك سبب عميق جعل الموجي يثابر في تطوير أساليبه اللحنية ذات الطابع الدرامي، ونسجها بصنعته العالية. فكما هو معروف، فشل في التحصيل الأكاديمي العلمي، كما ظل عاجزاً عن كتابة النوتة. لكن موهبته وفكره الموسيقي الرفيع ساعداه على تجاوز ذلك.

وبوجود موزعين مثل رايدر وعلي إسماعيل، حقق الموجي طموحه الموسيقي، فجاءت ألحانه مرتدية حُللاً موسيقية عصرية ومتطورة، سواء بما يضفيه التوزيع الأوركسترالي، واستخدام البوليفونية أو الهارمونية في النسيج اللحني.  
يرى الموجي أن سيرته هي عبد الحليم حافظ، وبالتالي كان عليه أن يحوز معظم الألحان الدرامية. وذلك بالفعل ما سيحدث. 
وضع الموجي في عام 1960 لحن "آخر جرحي إيه"، واتسم بطابع درامي. وكما يبدو أنه تمنّى لو أن عبد الحليم يغنيه. لكن الأخير رفض؛ فغناه محرم فؤاد وكذلك نجاة الصغيرة. وفي فيلمي "البنات والصيف" و"ويوم من عمري" تم استبعاد محمد الموجي من التلحين.

يعود الموجي من بوابة السينما إلى صوت عبد الحليم حافظ، بلحن أغنية "مغرور" في فيلم الخطايا (1962). يقدم في هذا العمل واحدة من ملامح تفكيره الدرامي. ويحدث التعميق التعبيري عبر التوظيف المقامي، وهو ما يشهده لحن الأغنية بالانتقال إلى البيات في "مصيره يرجع لذكرياته". لم يؤثر هذا الدخول الطفيف للبيات على خرق النسيج اللحني. 
في أواخر الستينيات، عبّرت ألحان الموجي بصورة غير مباشرة عن الواقع السوداوي لما بعد النكسة. هكذا، ولدت أغنية "جبار" قاتمة ومُشربة بالانكسار في 1967.

كان مدخل الأغنية، عبر الغيتار، مخاتلاً، ليبدأ حشد إيقاعي وتدفق موسيقي، باستخدام البانجوس وترجيف الأقواس على الوتريات. فالمقدمة الموسيقية توحي بأنها شلالات جارفة، ينتهي تدفقها بغناء "جبار" على مقام الحجاز، وبصورة تخالف العُرف اللحني السائد، فالمقام الرئيسي هو الكرد، والذي يسود المطلع باستثناء ترديد "جبار". 

تشهد الأغنية توظيفاً بوليفونياً يصاحب غناء المذهب، كذلك التحول من الغناء المُرسل إلى الموقع، والتغيير المستمر في سرعات اللحن. مع تحولات مقامية من الحجاز إلى النهاوند في الغصن الثاني، بينما آخر غصن يشهد أسلوباً إلقائياً غاضباً. صاغ الموجي جبار لتكون إحدى قممه الموسيقية، كان أيضاً يلقي حدته على مشهد سيتغير حتماً. لا ينخفض الأفق الدرامي في هذا اللحن، استرساله في "زي غيرنا ما باع.."، بتصعيد لافت تثيره مصاحبة الوتريات، يعقبه استدراك منفرج، تفصله لحظة صمت، وبأسلوب إلقائي أيضاً في مقطع: "وإلا أقلك لا يا قلبي".

يكاد يكون لحن "حبيبها"، أيضاً، عنواناً قاتماً في تزامنه مع أحداث النكسة. والمؤكد أن الموجي، مثل آخرين، خيمت عليهم روح قاتمة وكابوسية بتأثير الواقع. تشكل الأغنية إحدى أكبر مغامرات الموجي في التعبير الدرامي. ولا يعني أنها الأفضل، لكنها الأكثر جرأة على الإطلاق.

ما يميز هذا العمل هو التحوّل المستمر في سرعات اللحن والتقلبات الإيقاعية. الأغنية على مقام الكرد، وهو لحن البداية، والذي ينتقل من الخطابية إلى غنائية جارفة: "فلم تزل تلقاني وتستبيح خداعي".
تتوهج الوتريات في لحن مظلم وكابوسي لصوت الوتريات، في أسلوب يحاول تقمص مشهد مرئي لصوت العاصفة. اللافت ليس في التوظيف المقامي للكرد، حيث تبدأ الجملة الموسيقية بلحن قاتم، ينبعث متسارعاً، ليحدث تحول على الحجاز بصوت الناي. وكذلك الغناء، "حبيبها وروت لي"، يحدث الانتقال في "وعانقتني وألقت" على مقام البيات، وهنا يبرع الموجي في منح هذا المقام سمة تعبيرية عميقة.

لعل تلك واحدة من أكثر مغامرات الموجي في التفكير الدرامي، لكن اللحن يعتل في أشكال من الهياج، وبعض الألحان المتوسطة. في الفصل الختامي، يعاود اللحن نسقه العميق، ليشهد برهات صمت، كعلامة لإصغاء العقل، الانتقال من الإيقاع الداخلي إلى الخارجي مع تكرار "لن تراها". نلاحظ هنا انخفاض نبر "قلبي" كعلامة للنكوص، ثم التوقف ليشتد اللحن "ولن أحب سواها".. إلى هنا يبدو الأمر بعلامته الكاملة. لكن الخاتمة تلفق المشهد بالانفعال المفرط، فالإرباك مظهر عام يلوح في واقع ما بعد النكسة.

يستعيد الموجي في مطلع "قارئة الفنجان"، ما سبق له أن استخدمه في مطلع "حبيبها"، لكن بتصور لحني مختلف. وكما يبدو أن عبد الحليم انجرف وراء ألحان بليغ حمدي خلال السبعينيات، ما جعل الأمر أكثر صعوبة على الموجي، خصوصاً في ما يتعلق بتلحين القصائد. هكذا، كانت "قارئة الفنجان" خاتمة أعماله لعبد الحليم، وخاتمة درامياته.

في لحنه لقصيدة نزار قباني، حاكى الموجي بعض ملامح لحن "موعود" لبليغ حمدي، وتحديداً في الجملة الموسيقية التي تسبق غناء "بصّرت ونجّمت كثيراً"، إذ تتوالى الوتريات بامتداد يتكرّر تباعاً، كما في لحن الجملة الموسيقية الذي يسبق "تاني تاني" في أغنية موعود. لكن الخيال الدرامي أكثر خصوبة لدى الموجي، إذ يُعمقه بتحولات مقامية مدروسة، عبر الانتقال من النهاوند إلى النوى أثر في "أحزاناً تشبه أحزانك"، وهو مقام متفرع من النهاوند، يضفي سمة ضبابية. يستمر النوى أثر في مقطع "مقدورك أن تمضي أبداً".. لعلّها ثيمة سبق أن حضرت بصورة ما في "صافيني مرة"، وإن اتخذت في الأولى توتراً أقل. يعود النهاوند بتصعيد يشبه الجزم في "مقدورك أن تبقى مسجوناً.."، لينتهي بلازمة موسيقية ذات مسار تنازلي متدرج، فالتحول الإيقاعي يصبح مقامياً في "وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار". لكن استعادة النهاوند تشبه العصف، ودائماً تتبدل سرعة الألحان. 

وباستثناء المقدمة الموسيقية المركبة من ألحان لا علاقة لبعضها ببعض، اتخذت الأغنية وحدة لحنية لافتة، مع تحولات مقامية طفيفة. لكن الموجي، يتملق ذائقة السبعينيات بإيجاد مساحة شعبية، وهو ما وظفه بمقام شرقي هو الهُزام، في مقطع "بحياتك يا ولدي امرأة". بينما في القسم الأخير، تنخفض قوة اللحن، وإن لم يخلُ من بعض الجمل الجميلة. بالنسبة لـ "قارئة الفنجان"، فالنجاح أهم من اتباع المنطق، وهو ما حققته. 
بعد ذلك، لم يقدم الموجي لحناً كبيراً، رحل رفيقه عبد الحليم حافظ، مسدلاً الستار على قرن كامل من الغناء. وبعد 18 عاماً، رحل الموجي، ليمثّل رحيله، آنذاك، الزفرة الأخيرة لحقبة غنائية كاملة. 

المساهمون