المخرج محمد كامل القليوبي، أحد المقاتلين الحقيقيين لرفعة فنّ السينما في مصرنا الحبيبة، فضلاً عن كونه من القلائل المعنيين بتقديم منتج إبداعي حقيقي يصل إلى وجدان الجمهور وقلبه. لكن القليوبي، ككل المبدعين الحقيقيين والمخلصين لوطنهم، لا يتنازل ولا يساوم ولا يناور، مخلصٌ لمبادئه وقيمه المهمومة دوماً بالشأن العام.
عندما كان أستاذاً لمادة السيناريو والإخراج في المعهد العالي للسينما، تخرّجت على يديه أجيال متلاحقة من المعهد، وصاروا نجوماً لامعة في سماء الفن، بفضل دعم القليوبي وصقله لمواهبهم. ولاحقاً، عندما انتُدب مديراً للمركز القومي للسينما، حارب ضدّ كلّ اللوائح والقوانين البالية التي عفا عليها الزمن، والتي أصبحت بمثابة مقبرة للمواهب الطامحة لصناعة سينما مختلفة بدعم حكومي.
تمرّد القليوبي أضاء شعلة الإنتاج في المركز، بعد أن كانت مطفأة، وبعث فيها الحياة بعد أن كانت جثة هامدة، واستطاع خلال شهر واحد فقط من توليه إدارة المركز أن يتيح الفرصة لإنتاج عشرة أفلام دفعة واحدة، على الرغم من كلّ المنغصات والمحبطات التي واجهته، فقد انتصر عليها بإصراره، وإيماناً منه بالمواهب السينمائية الجديدة، لا بد من الوقوف بجانبها ومنحها الفرصة لتحقق ذاتها.
وخاض القليوبي معركة أخرى أكثر ضراوة وأشد خطورة، حمل فيها لواء المطالبة بإنشاء أرشيف لحفظ تراثنا السينمائي من الضياع والتلف، أي إنشاء سينماتك لحفظ التراث من التلف. ومن ثم خاض القليوبي معركة شرسة ضدّ ما سميّ "بيع أصول الأفلام لجهات غير مصرية"، في ظل صمت حكومي يصل إلى حدّ التواطؤ من جانب وزارة الثقافة وقتذاك. علا صوت القليوبي في وقت صمت فيه الجميع من أجل مصالح ومكاسب شخصية ضيقة، وحتى لا يخرجوا من حظيرة وزارة الثقافة، وهو المصطلح الذي ابتدعه وزير الثقافة في حينها.
وقد طالبت عدّة شخصيات وجهات ومؤسسات نافذة في الدولة منه بأن يصمت، لكنّه أبى فكان العقاب إنهاء فترة انتدابه بطريقة مهينة لا تليق بتاريخه ولا قامته. وبالطبع، حوصر القليوبي حصاراً شديداً، فمشاريعه الفنية، وكنت بطلاً لها وشاهد عيان على ما جرى، يجري تعطيلها وتأجيلها على نحو غير مبرر.
وامتد الأمر إلى التعتيم والتجاهل والتشكيك في إنتاجه الفني الذي سجل انتصاراً فنياً في زمن الخيبات الفنية والزيف الإبداعي، كما في حالة فيلم "خريف آدم" الذي تعرّض لهجوم وتشكيك غير مبرر، وهذا ليس في معرض الدفاع عن الفيلم، لأني اضطلعت بدور البطولة فيه، ولكنّه إقرار بحقّ هذا الرجل، وإعادة الاعتبار إليه.
وكان القليوبي مع كاتب هذه السطور المستهدفين الأساسيين، ولقد اتضح لي بعد ذلك أنّ هذا جزء من تصفية الحسابات مع القليوبي، فقد دفع الرجل ثمن نزاهته ونبله وشجاعته في مواجهة القبح والزيف والكذب والادعاء، فكان التهميش والتعطيل والإخراج من دائرة الضوء والحرمان غير المعلن من ممارسة إبداعه.
القليوبي هو الفارس الذي وقف وحيداً أمام القوى التي انحنى لها الجميع وخضعوا لها، فسلامٌ إلى روحه فارساً نبيلاً ومبدعاً حقيقياً.