مجزرة الخيام في رفح: كل العيون على صورة الذكاء الاصطناعي

07 يونيو 2024
أندونيسيون يرفعون صورة "كل العيون على رفح" المُعدّة عبر الذكاء الاصطناعي (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- صورة طفلة النابالم الفيتنامية أصبحت رمزاً لوحشية الحرب، مشابهة للصور القادمة من غزة التي تعكس ذعر الأطفال وقسوة الحروب، مؤكدةً على استمرارية تأثير الحروب على الأبرياء وتجريدها للحضارة من قيمها.
- الصور من غزة، خاصة حول مجزرة مخيم رفح، تحمل قوة تأثيرية قادرة على لفت انتباه العالم، لكن استخدام الذكاء الاصطناعي في توليد صور قد يثير جدلاً حول تأثيرها الحقيقي على الرأي العالمي.
- محاولات السلطات المحتلة لتزييف الصور والمعلومات باستخدام التكنولوجيا تواجه بالصور الحقيقية من المواطنين والصحفيين في غزة، مؤكدةً على دور الصورة في توثيق الحقائق وتحريك الضمير العالمي.

لا تبدو صورة طفلة النابالم الفيتنامية، كيم فوك فان، ذات الأعوام التسعة أكثر وحشية من الصور الآتية من قطاع غزة، ولا تحمل عنفاً جسدياً أو رمزياً أكبر. ولعل الصور التي تتدفق يومياً من غزة، تثبت أن مئات آلاف الأطفال يعيشون ذعراً يتطابق وذعر الفتاة الفيتنامية التي التهمت النيران الأميركية جسدها الصغير. يقدّم المحتوى الغزيّ المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي انعكاساً لقسوة الحرب وهمجية الاحتلال، كاشفاً أنّ تجليات الحضارة الإنسانية ما هي إلا قشور، وما نحن إلا في خطوة على درب تطوير السلاح وأدوات الموت.

الصورة التي التقطها مراسل أسوشييتد برس نيك أوت (الحائز بولتزر عام 1973 عن هذه الصورة) في أثناء الحرب على فيتنام 1972، تظهر الطفلة تفرّ عارية باكية، هاربة من قنابل النابالم الأميركية التي أحرقت قريتها، وكذلك أجزاء كبيرة من جسدها.
لم يتطلب الأمر سوى أن تُفرّغ لها الصفحات الأولى من الصحف الكبرى، حتى أصبحت أيقونة تجسّد عنف الحرب ووحشيتها، وجعلت الرأي العام ينتفض مناهضاً للحرب على فيتنام. طبعاً، كان الجميع يعلم أن فيتنام تعيش حرباً، إلّا أن هذه الصورة كان من شأنها أن تجعل لمفاهيم الحرب والخطر والموت المجردة، بعداً أكثر إنسانية، أقرب من التصورات البشرية، ولذلك استخدمت في تظاهرات طالبت الحكومة الأميركية بالانسحاب من فيتنام.

في المجزرة المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في مخيم رفح، استشهد أكثر من 45 غزياً، قتلوا حرقاً في نيران الغارات الإسرائيلية، التي التهمت خيامهم وأجسادهم. تحمل صور هذه المذبحة تكثيفاً للقسوة والوحشية ومولداً للغضب الجماهيري، قد يفوق آلاف الكلمات عن بشاعة الحرب.

أدرك الغزيون بعد العدوان أن الصورة يمكن أن يكون لها سلطة توقف سيل الدماء النازف، وربما هذا ما جعل بعضهم ينتقد الصورة التي لاقت رواجاً كبيراً بعد إحراق المخيمات التي تحمل عبارة "كل العيون على رفح" (All Eyes on Rafah) في مبادرة للفت الأنظار إلى الجريمة الوحشية التي يرتكبها الاحتلال في مخيمات اللاجئين في مدينة رفح المتاخمة للحدود المصرية.

تظهر في الصورة كتل من الخيام الممتدة، التي شكلت العبارة الداعية إلى مراقبة وحشية إسرائيل في عدوانها الذي بدأ منذ ثمانية أشهر، ولم ينتهِ عند إحراق الخيام، في مذبحة اعتبرها بيان الأمم المتحدة "أكثر فظائع الحرب قسوةً". أصبح قالب الستوري هذا الأكثر انتشاراً وتداولاً في تاريخ المنصة.

وعلى خلفية الصورة التضامنية، جاءت دعوة مضادة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الصور الحقيقية الأكثر رعباً من تلك المولدة عبر الذكاء الاصطناعي التي تُسطّح المأساة وتبسّط العدوان، ومن شأنها أن تثير الرأي العام العالمي ضد الاحتلال.

السبب وراء انتشار الصورة بهذه السرعة والكثافة، يعود إلى أنها لم يكتشفها نظام الرقابة، في نوعٍ من التحايل على خوارزميات "ميتا" التي تحجب المحتوى الذي يسلط الضوء على مجازر الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وتصنفه تحت بند "العنيف" و"الحساس".

لم يعد هناك مجال للشك في أن المحتوى الفلسطيني يُعتَّم عليه عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ ففي التحديث الأخير لتطبيق إنستغرام التابع لشركة ميتا، قُيِّد عرض المحتوى السياسي على التطبيق، وتوقف عن اقتراح هذا النوع من المحتوى لمن لا يتابع الحسابات التي تنتجه. من غير المستغرب أن يكون هذا التحديث يستهدف، مباشرةً، المحتوى الآتي من قطاع غزة، ما جعل رواجه أمراً صعباً، عدا إغلاق الحسابات المتضامنة مع غزة.

أعلت صور العدوان على قطاع غزة أفق المخيال البشري في تصوّره لشناعة الحرب. ومع ذلك، فإن الصورة التي استخدمت على مواقع التواصل الاجتماعي للفت أنظار الجمهور إلى مدى بشاعة مذبحة رفح، صورة مولدة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي.
لا مجال للشك في أن لاستخدام هذه الصورة مسوغاته، وهو الدعوة إلى التضامن، ولكن في انتشارها الذي تجاوز الـ50 مليون مشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي، تفتح باباً للحديث عن تغييب الصور الحقيقية الآتية من غزة على حساب الصور المولدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.

من شأن الانتشار الهائل للصور المولدة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي أن ينتج نوعاً من المعرفة البديلة التي يخالطها الزيف والتلاعب، وهي تعكر السردية الفلسطينية المتخمة بالصور المروعة المُلتقطة في غزة بعد العدوان، ومن شأنها أن تساهم في صناعة أرشيف فلسطيني مناهض للاستعمار، يُقرأ وفق عدّة مستويات بادية ومستترة، ولكنها تشير إلى أن ما يحدث في غزة دون أدنى شك تطهير عرقي وطمس لمعالم القطاع. ولا بد لمحاولات طمس الفضاء الجغرافي الأكثر كثافة في العالم، أن تترافق مع محو الصور والوثائق التي تنقل من غزة وتقدم للعالم ليشهد بأم عينه أشنع جرائم القرن.

وإن كان تغييب الصور ضرباً من المستحيل، فإن الاحتلال استخدم كل أدواته في التضليل، فخلال الأشهر الأخيرة من الحرب غزت الصور المولدة عبر الذكاء الاصطناعي مواقع التواصل الاجتماعي. الصور المضللة هذه، وإن كانت تحمل في بعض الأحيان أشكالاً للتضامن، إلا أنها تزيف الواقع، على الرغم من الجرعة العاطفية التعبيرية العالية فيها.

ما يحدث في قطاع غزة ليس صوراً مولدة بالذكاء الاصطناعي، وليس حرباً مزيفة، بل جثث متوارية تحت ركام الخيام المحروقة والمباني المهدمة، فالذكاء الاصطناعي يفرغ الصورة من قيمتها الإنسانية ويشوه مفهوم الصورة/الوثيقة، إذ تخلق هذه الصور عالماً غرافيكياً يحوي شخوصاً غير حقيقيين، ما يجعلها تفتقد روح الصورة وجوهرها.

أما محاولات تكذيب الصورة وتزييفها التي تمارسها سلطات الاحتلال، فليست جديدة، فما كان أمام الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، حين رأى صورة فتاة النابالم إلا أن يشكك بمدى مصداقيتها، لكن صورة كهذه تقطع الشك باليقين في ما تحمله من قسوة. ومع محاولات نيكسون البائسة، كانت اللقطة ذريعة لإيقاف حرب فيتنام التي كبدت أميركا خسائر كبيرة. بالنسبة إلى غزة، الأمر أكثر تعقيداً، إنها حرب تُنقل كمادة خام لشريحة عظمى من الجمهور.

ولكن من جهة أخرى، فإن معطيات العصر والانتشار سلاح ذو حدين؛ إذ يتلقف جمهور عريض من أنحاء العالم كافة المحتوى الذي يكثف المأساة الكبيرة، ولكن القضايا الكبرى التي تتحول إلى مضامين على مواقع التواصل الاجتماعي، معرّضةٌ للخمود، والدفن تحت سيل من الصور ومقاطع الفيديو ذات المضامين المتنوعة.

في محاولات تغييب فيض الصور الآتية من غزة خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، خير دليل على محاولات التشويش على الرأي العام وإبعاد أنظاره عن الحرب، وإن كان ولا بد من انتشار الصور، فذهب الاحتلال الإسرائيلي إلى محاولات تزييفها، أو تخفيف وطأتها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعيد إنتاج نسخة ملطفة عن المأساة.

من نافل القول إن العدوان على قطاع غزة يسري على أنساق مختلفة، واحد منها بلا شك عدوان على الصورة وانتشارها ومصداقيتها، في صورة طفلة النابالم لم يكن لنيكسون أدوات يدحض من خلالها مصداقية الصورة، أما اليوم مع التدخل الهائل للزيف الذي ألحقه الذكاء الاصطناعي على الصورة، فازدادت إمكانيات التشكيك، ولا سيما أن الصورة المولدة عبر الذكاء الاصطناعي يسمح لها بالمرور عبر خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقيد انتشار الصور الحقيقية.

الصورة في العدوان على قطاع غزة تشكل الحُكم، ولهذا يُدسّ بالصور المزيفة بين الصور الحقيقية. يجوز القول إن ما وصل من غزة منذ بدء العدوان في أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي، هو فيض من الصور، دفع مصورو غزّة ومواطنوها حياتهم من أجل التقاطها، أو وضعوها على المحك، أو بالأحرى فإن حياة أي مواطن غزي على المحك. الكل ضحية والكل صحافي يصوّر لنقل حقيقة أنهم يعيشون تحت وطأة جلاد يزيف من الصور والفيديوهات لمصلحته من خلال استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لكي يكسب الرأي العام.

المساهمون