"مترو غولدوين ماير"... أسد الحلم الأميركي في قفص "أمازون"

27 ابريل 2024
الأسد الشهير في افتتاحيات أفلام الشركة (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- استحوذت "أمازون" على شركة "مترو غولدوين ماير" مقابل 8.5 مليار دولار في 2022، مما نقل أرشيفها السينمائي الضخم الذي يضم أكثر من ألفي فيلم، بما في ذلك أفلام أيقونية مثل "ذهب مع الريح" و"ساحر أوز".
- "مترو غولدوين ماير"، المعروفة بإنتاجاتها السينمائية الباذخة، ضمت قائمة نجومها أساطير مثل كلارك غيبل وإليزابيث تايلور، وكانت تحت إدارة لويس بي. ماير، الذي بنى إمبراطورية سينمائية ذات تأثير مستمر.
- واجهت السنوات الأخيرة من حياة لويس بي. ماير تحديات كبيرة، بما في ذلك خلافات مع شركائه وتغيرات في الصناعة أدت إلى إقالته، تاركاً وراءه إرثاً سينمائياً ضخماً وقصة حياة تعكس صعود وسقوط أحد أبرز رموز السينما الأميركية.

لعلّ نهاية شركة مترو غولدوين ماير، عملاق الإنتاج السينمائي الأميركي في النصف الأول من القرن العشرين، والمعروفة بشعارها الشهير ذي الأسد الذي يزأر في وجه مشاهديه، تشبه إلى حدٍّ ما نهاية شركة نوكيا الفنلندية للهواتف الذكية، حين انهارت أمام التطوّرات التكنولوجية السريعة، فاكتسحتها شركات مثل "آبل" و"سامسونغ"، إلى أن استحوذت "مايكروسوفت" عليها في إبريل/نيسان 2014. ربما تتشابه النهايتان، لكن خاتمة "مترو غولدوين ماير"، التي تمرّ هذه الأيام الذكرى المئوية الأولى لتأسيسها (17 إبريل من عام 1924)، كانت أكثر دراماتيكية، بالضبط كما يحلو للسينما أن تبالغ في رسم انفعالات أبطالها، حتى رأينا نهاية أسدها الشهير، ليو، محبوساً في أقفاص بضائع "أمازون"، بعد أن استحوذت الأخيرة عليها عام 2022، مقابل 8.5 مليارات دولار أميركي.

بموجب هذه الصفقة، تمكّنت "أمازون" من امتلاك أرشيف سينمائي ضخم يزيد عن ألفي فيلم، من أهمها: "ذهب مع الريح"، و"ساحر أوز" (1939)، و"الغناء تحت المطر" (1952)، و"دكتور زيفاغو" (1965)، وغيرها من أيقونات السينما العالمية، إلى جانب إنتاجها الضخم في فيلم "بن هور" بنسختيه؛ الصامتة عام 1925 والناطقة عام 1959، وهي النسخة التي فازت بعدد قياسي من جوائز أوسكار (11 جائزة)، في سابقة كانت الأولى من نوعها، لم تتكرر إلا بعد عقود طويلة، وتحديداً مع فيلمي: تايتانك (1997) وسيد الخواتم: عودة الملك (2003).

لم تتمكّن "مترو غولدوين ماير" من ترسيخ نفسها واحدة من اللاعبين الرئيسيين في صناعة السينما الأميركية خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي فحسب، بل نافست شركات أكثر ضخامة مثل "بارماونت" و"جاك وارنر". لكنها تميزت أيضاً بلمسة غامضة ما، تشبه ملمس القطيفة الناعمة في خلفية المشهد المعروض على شاشة السينما، مع مصدر غامض لضوء لا نراه، يجعلنا نشعر بأن الشاشة تتألّق، حتى إن أعين النجوم هنا ليست كأعينهم في الأفلام التي تنتجها الشركات الأخرى؛ نظرة سريعة إلى مشاهد "ذهب مع الريح" الرائقة حتى تشعرنا بالراحة، وتأمّل حركة الكاميرا وهي تستعرض رقصة جين كيلي في "الغناء تحت المطر" كفيلة بمنحنا الشعور بالقطرات نفسها التي تتساقط على سترته الأنيقة.

ثمّة حلم أميركي كان يتشكّل في سينما هذه المرحلة، لكن المساهم الأكبر في بلورة هذا الحلم وتجسيده في العشرات من الأعمال السينمائية الأخرى، كان بلا شك أفلام "مترو غولدوين ماير"، بإنتاجها السينمائي الباذخ، ومشاهدها السينمائية الحالمة، وقائمة نجومها التي ضمت أساطير السينما آنذاك: كلارك غيبل وفرانك سيناترا وفريد إستر وغاري غرانت وبول نيومان وسبنسر تريسي وجان هارلو وإليزابيث تايلور وغريتا غاربو وكاثرين هيبورن. كتيبة ضخمة من ألمع نجوم السينما العالمية، جسدت ونشرت أسطورة الحلم الأميركي الجديد أمام أعين ملايين المشاهدين حول العالم، ما دفع الشركة إلى إطلاق شعارها المعروف: "عدد نجومنا يفوق ما في سماء الجنة".

الشعار نفسه، الذي يرجعه كثيرون إلى العقل الحقيقي وراء "مترو غولدوين ماير"، لويس بي. ماير، الذي كان مهاجراً يهودياً قادماً من أوروبا الشرقية. ولد لويس ماير عام 1885 في عائلة من المزارعين اليهود الأثرياء، تعيش بالقرب من مينسك (عاصمة بيلاروسيا حالياً)، ثم هاجر مع والديه إلى كندا وهو في الثالثة من عمره. وحين بلغ الثامنة، كان يكسب رزقه من بيع الخردوات مع والده على عربة يدوية يجرانها بصعوبة في الشوارع. لكن الصبي الصغير، المفتون بالحلم الأميركي والفرص الهائلة التي يوفرها للثراء السريع، كان قد بدأ يحلم بعبور الحدود ليصل إلى أميركا، حيث يؤمن بأنه سيصبح هناك الرجل الذي يطمح سرّاً إلى أن يكونه: صاحب ثروة وسلطة. باختصار، عمل لويس ماير كل ما في استطاعته ليصبح رجلاً أميركياً كامل الأهلية، حتى إنه اختار تاريخ يوم الاستقلال الأميركي (الرابع من يوليو/ تموز)، ليكون موعداً رسمياً للاحتفال بميلاده كل عام. عام 1907، قرر ماير عبور الحدود لينتقل مع عائلته إلى بوسطن. وبعد شهور قليلة، يفاجئ أسرته، وهو في سن الثانية والعشرين، بشراء مسرح مهجور وتحويله إلى قاعة للسينما. وبحلول عام 1915، كان ماير قد جمع ما يكفي من المال (نحو 50 ألف دولار) لشراء حقوق توزيع الفيلم الصامت "مولد أمّة"، للمخرج الأميركي ديفيد غريفيث، في جميع صالات نيو إنغلاند. وبفضل النجاح الهائل الذي حققه الفيلم، خاصة بعد الاحتجاجات التي تفجرت بسبب ما تضمنه من نظرة عنصرية ضد الأميركيين السود، أصبح لويس بي. ماير رجلاً ثرياً بالفعل، بأرباح وصلت إلى 500 ألف دولار.

هنا، سيبدأ فصل جديد في حياة ماير السينمائية، خاصة بعد انتقاله، على غرار غيره من الشركاء، إلى ضاحية هوليوود الهادئة في لوس أنجليس، التي يتمتع موقعها بالعديد من المزايا، حيث مساحات زراعية شاسعة يمكن بناء استوديوهات حديثة عليها، ومناخ معتدل أغلب شهور العام، وتكلفة أقل بكثير من تلك الموجودة في نيويورك، حيث يتم استئجار الاستوديو الواحد بمبالغ ترفع من فاتورة الإنتاج. إلى هوليوود الصغيرة، إذن، حيث بدأت الاستوديوهات في النمو، وازدحمت بعشرات الممثلين والممثلات الباحثين عن الشهرة، نقل ماير شركته عام 1918، وأعاد تسميتها لتصبح "لويس بي. ماير للإنتاج" (Louis B. Mayer Production).

وفي العام التالي، وقع ماير عقد الاحتكار الأول في تاريخ السينما قاطبة، حين وضع أمام الممثلة الأميركية أنيتا ستيوارت عقداً تمتلك شركته بموجبه حق احتكارها لسنوات. وفي المقابل، تحصل ستيوارت على نسبة مئوية من أرباح شباك التذاكر، أو ما عرف لاحقاً بمصطلح "نظام الاستوديو". في ذلك الوقت، كانت عقود شركات الإنتاج السينمائية الأخرى لا توفر أي حماية للمنتجين، ما كان يدفع العديد من نجوم السينما إلى ترك التصوير والبدء في أعمال أخرى، وهو ما غيره لويس ماير بنظام الاحتكار الذي ابتدعه، والذي شكل إطاراً عامّاً، حتى يومنا هذا، لصناعة السينما حول العالم. وفي الوقت الذي خضع فيه أغلب نجوم هوليوود لسياسات ماير الاحتكارية تلك، كان هناك أيضاً من تجرأ على الوقوف أمامه بقوة رفضاً لعقوده المذلة، وكانت عبارة غريتا غاربو الشهيرة: "لا بأس، إذن سأعود إلى السويد"، أول صرخة رفض يقابلها ماير، المعروف بصلفه وتعامله الشرس مع الممثلين. لكنه استسلم أمام جميع الشروط التي وضعتها غاربو، ما شجع زميلتها كاثرين هيبورن على التمرد لاحقاً، ولكن بشراسة أكبر.

في هوليوود أيضاً، التقى لويس ماير برجل الأعمال الأميركي ماركوس لوو، الذي كان قد بدأ بتأسيس شركة إنتاج سينمائية باسم "مترو بكتشرز" Metro Pictures Corporation، ثم استحوذ على Goldwyn Pictures التي كان يمتلكها رجل الأعمال سامويل غولدن. ورغم هذا، ظل لوو في حاجة إلى مدير للشركة يستطيع الإشراف على عملية الإنتاج، خاصة مع توسع شركات إنتاجية أخرى مثل يونيفرسال استوديوز ومترو بكتشرز، ولم يكن هناك أفضل من لويس بي. ماير ليكون نائباً لرئيس الشركة. هكذا، إذن، ولدت "مترو غولدوين ماير"، المعروفة اختصاراً بـMGM، من خلال الاندماج بين الشركات الثلاث: مترو بكتشرز وغولدن بكتشرز وشركة ماير الخاصة، وسُجّلت رسمياً في 17 إبريل من عام 1924، لترتقي سريعاً إلى المركز الأول بين شركات الإنتاج الأميركية. ولكن، بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسها، أعلنت الشركة عن موت رئيسها ماركوس لوو، ليصبح ماير الرئيس الفعلي لأكبر شركة إنتاج سينمائية في بيفرلي هيلز آنذاك.

ما إن تولى منصبه رئيساً لـMGM خلفاً لسابقه، حتى بدأ ماير بتدشين مرحلة جديدة من تاريخ الشركة، ستتأكد ملامحها بعد سنوات، خاصة مع انضمام العقل التجاري اللامع لإيرفينغ جي. ثالبرغ الذي عُيّن مديرَ إنتاج في MGM. لعب هذا الشاب ذو الـ26 عاماً دوراً حاسماً في النمو السريع للشركة، خاصة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حين حققت MGM أرباحاً خيالية، نتيجة توزيعها فقط لأفلام مثل "طرزان" من إنتاج شركة وارنر، و"ساحر أوز" و"ذهب مع الريح" من إنتاجها، وكلها من أوائل الأفلام الملونة في تاريخ السينما، في جميع دور العرض الأميركية.

سنة بعد أخرى، كان استبداد لويس ماير قد أصبح مرهقاً للمحيطين به، خاصة بعد تغلغل النغمة الأخلاقية في إنتاجات الشركة، مثل سلسلة "آندي هاردي"، التي امتدت إلى 16 فيلماً، وهي ترنيمة سينمائية مملة عن مجد العائلة الأميركية، تفسّر جوانب محافظة عديدة في شخصية ماير نفسه، الذي أصبح واحداً من ركائز الحزب الجمهوري في كاليفورنيا، بعدما ترأسه لمدة عشر سنوات. تشير الكاتبة الأميركية، ديانا ألتمان، في كتابها اللافت "شرق هوليوود: لويس بي. ماير وأصول نظام الاستوديو" (2010)، إلى أن ماير كان أحد أقوى الأصوات المؤيدة للسيناتور الأميركي جوزيف مكارثي، وشارك في "مطاردة الشيوعيين" في هوليوود، بل وطرد من شركته كل النجوم الذين حامت حولهم الشبهات. ووفقاً لألتمان، "كان عداء ماير لليبراليين لا يُحتمل، إلى حد أنه قرر حرمان ابنته الوحيدة من ميراثها، فقط لأنها تزوجت من أحد رموز الحزب الديمقراطي".

على مدى 30 عاماً، تربع لويس بي. ماير على عرش لوس أنجليس كأقوى رجل فيها، قبل أن تبدأ أسطورته في التلاشي بحلول عام 1951، حين بدأ شركاؤه يختلفون معه حول نوعية الأفلام التي يريدونها، إلى أن استطاعوا إقالته ومن ثم تحييده عن إدارة الشركة، ليقضي السنوات الأخيرة من حياته في إثارة المؤامرات عبثاً ضد الفريق الجديد، في محاولة لاستعادة مجده القديم، قبل أن يستسلم أمام سرطان الدم عام 1957. حينها، كتب أحد الصحافيين بعد تشييع جنازته التي تميزت بحضور كثيف من أباطرة هوليوود قائلاً: "الشيء الوحيد الذي يفسر ازدحام جنازته بكل هؤلاء، هو أنهم جميعاً جاؤوا فقط ليتأكدوا من موته بأنفسهم".

المساهمون