مادس ميكلسن (2/ 2): "افْهَم العالم الذي تشتغل فيه لتتحرّى الصدق"

19 فبراير 2024
مادس ميكلسن: أهم مقارباتي الاعتماد على نصّ السيناريو فقط (كارلوس ألفاريز/Getty)
+ الخط -

 

بعد جزء أول من حوار "العربي الجديد" معه (16 فبراير/شباط 2024)، يستكمل الممثل الدنماركي مادس ميكلسن كلامه عن التمثيل والأفلام والرقص:

 

(*) بعد "إنديانا جونز ونداء القدر"، قمت بانعطاف كامل، لتمثّل في "الأرض الموعودة"، المختلف تماماً. أمُهمٌّ لك أنْ يكون هناك نوعٌ من التوازن؟

جميل جداً أنْ تكون قادراً على القيام بذلك. لا تُتاح لك الفرصة دائماً. لكنّي لا أفكر في الأمر بمثابة خطوة هنا، ثم يجب أنْ أقوم بالتالية هناك. لا أفكر بهذه الطريقة. نوعاً ما، أذهب إلى حيث يأخذني العرض الأكثر إثارة للاهتمام. لكنْ، أصبح مهمّاً لي، أكثر فأكثر، أنْ أصنع أفلاماً أوروبية، ودنماركية خاصة، لأنّها تتعلّق بموطني ولغتي، وبالقصص القريبة منّي. أرى ضرورة عودتي إلى بلدي الأم، والعمل مع أصدقائي من المخرجين، ومحاولة الذهاب بعيداً قدر الإمكان في تجربة أشياء، ربما لن أقوم بها مع شخصٍ لا أعرفه جيداً.

 

(*) هل لا تزال تمارس الرقص، بأي شكل من الأشكال؟

مُطْلَقاً.

 

(*) هل لديك ارتباط بمبادرة أليسيا فيكاندر مع مهرجان غوتنبرغ لإنشاء محترف فيلميّ، يدمج تقنيات الرقص في تكوين ممثّلين شباب؟

لا علم لي بذلك. درست الرقص هناك، في غوتنبرغ، لفترة، ثم تركت الدراسة. أردت ممارسة الرقص فحسب، فانضممت إلى مجموعة باليه، ورقصت باحتراف لعقد تقريباً. كانت لديّ تجربة سابقة كلاعب جمباز، لذلك كانت هناك أشياء معيّنة يمكنني القيام بها، وأشياء كثيرة لم أستطع القيام بها. تعلّمت الكثير من خلال الممارسة الفعلية.

 

(*) هل كان الانتقال من احتراف الرقص إلى التمثيل سلساً؟

لم يكن الأمر سهلاً، لأنّ المرة الأولى التي رأيت فيها مسرحاً في حياتي كانت عندما كنت لأول مرة على خشبة المسرح. لم أذهب إلى المسرح، ولم أشاهد عرضاً مسرحياً حيّاً من قبل، إطلاقاً. كان كلّ شيء رائعاً ومجنوناً، لأنّي أعشق الرابط البدني مع الأشياء. لذا، أحببت التحدّي. عشقت دراما الرقص أولاً، ثم انتقلت إلى الدراما الكاملة في النهاية. لم أكنْ أحب كثيراً جماليات الرقص الكلاسيكي. لم أجد مُثيراً القيام بحركة Pirouette، مثلاً. لم أفهم ما كان ذلك يقوله لي. أشياء أخرى معاصرة كانت أكثر حيوية، لذا أُغرمت بها.

 

(*) لا يحب الممثلون، عادة، الإفصاح عن مقاربتهم في العمل، وبعضهم لا يستطيع التعبير عنها. لكنّك ممثل مبهر، إلى حدّ أننا نتساءل عن مدى خصوصية مقاربتك.

الأمر يختلف كثيراً بين تجربة وأخرى. تختلف المقاربة. هذه حالة معظم الممثلين. هناك تقنيات معينة. لنَقُل تقنية ستانيسلافسكي، التي يلتزمها بعضهم، وتنجح معهم في كل مرة. ليس هذا ما تلقّيناه في المدرسة (درس ميكلسن التمثيل في معهد "مسرح آرهوس" ـ المحرر). تتلمذت على أيدي أساتذة مختلفين، قالوا أشياء متنوعة، ثم تخرّجت بعد 4 سنوات، ولم تكن لديّ أي فكرة عمّا يجب فعله (يضحك). الممارسة تكفّلت بتعليمي. أعتقد أنّ إحدى أهم مقارباتي الاعتماد على نصّ السيناريو فقط: فهم ماهية القصة، وكيف يمكن جعلها أقوى، وذات نزعة أعمق، مهما كلّف الأمر. أطرح أفكاراً، وأناقش مع المخرج، ثم أبدأ بحقن أشياء من نفسي في الشخصية. لدينا جميعاً نوازع عاطفية. بعض الأشخاص يتمتّع بعواطف عارمة، وآخرون حسّهم العاطفي ضعيف، لكننا نتعرّف عليه عن طريق الحدس. يتطلّب منّي الأمر العثور على الأوصاف التي تميز كلّ شخصية، أنْ أحدّدها في داخلي، وأعمل على تضخيمها، ثم أضيف إليها أشياء من عندي. تدريجياً، تُصبح شيئاً يُعبّر عنّي، لكنها ليست شخصيتي تماماً.

 

(*) قلت إنّك من فور الانتهاء من التصوير، تعود إلى حياتك الطبيعية من دون أنْ تحمل الدور معك إلى المنزل.

نعم، أحمل معي طبيعة يوم العمل، كأيّ شخص آخر. إذا كان يوماً جيداً، فهذا عظيم. وإذا كان يوماً سيئاً، ينعكس ذلك عليّ. يُمكن أيضاً أنْ أحمل مشاعر محدّدة تجاه شخصية معينة، بعد انتهاء التصوير، لفترة من الوقت، لكنْ ليس الشخصية نفسها. لا أصرّ على أنْ يُطلق عليّ أطفالي أسماء الشخصيات التي أؤدّيها. أعتقد أنّ هذا خطأ. هناك ممثلون يقومون بذلك، وهم جيّدون جداً، لكنّه ليس الحل السحري كما يظنّ بعضهم، لأنْ بإمكانك أيضاً العثور على أشخاصٍ يقومون بذلك بشكل مختلف تماماً، وهم جيدون جداً أو سيئون جداً. التقنية ليست مهمة في اعتقادي، لكنّ الأمر يبدو مُثيراً للإعجاب بالنسبة إلى الصحافيين، عندما يسمعون أشياء من قبيل: "أوه! عاش وسط الجبال لمدة عامين، وعندما تحدّث إلى أطفاله كان لا يزال في ثوب الشخصية! كم هو مخلص للغاية!". حسناً، وماذا لو كان ممثلاً سيئاً رغم كلّ ذلك؟ يميل بعض مانحي الجوائز أيضاً إلى مكافأة هذا الهراء. يُمكنك أنْ تكون ملتزماً تجاه الدور بطرق أخرى، غير كلّ ذلك.

 

 

(*) لديك موهبة في خلق التعاطف مع شخصيات تبدو غير محبوبة ظاهرياً، إذْ تُضفي طابع الإنسانية عليها، أو استكشاف ثيمات معقّدة كالـ"ألفا ميل" في "جولة أخرى"، أو إظهار حساسية الشخصية كما في "الأرض الموعودة". لماذا تعتقد أنّ هذا مهم؟ ألّا تمثّل شخصيات سوداء تماماً أو بيضاء كلّياً؟

لأنّ البشر ليسوا بالأبيض أو الأسود. طبعاً، العالم يغدو أغرب فأغرب، فتبدو الأشياء معنا أو ضدنا أحياناً. أليس كذلك؟ لكنْ، هناك دائماً في الوسط نقاشٌ يجب أنْ نخوض فيه. بخصوص أي موضوع تختاره، هناك نقاش في المنتصف، أساسي للفهم، من دون أنْ نتّخذ موقفاً واضحاً، أو نصطفّ في أحد الجانبين، لكن يصعب العثور عليه، لذلك نفضّل الاصطفاف. الحياة ليست كذلك في الحقيقة. نحن مفعمون بالشكّ، ونغيّر آراءنا باستمرار. هذا مهمّ أيضاً، لأنه أكثر تشويقاً للمُشاهدة. أحد أسباب الحبّ الجمّ الذي أكنّه لـ"تاكسي درايفر" ("سائق التاكسي" لمارتن سكورسيزي، 1976 ـ المحرر) أنّه لا يتعلّق بشخصية محبوبة، لكنْ هناك شيء فيها يجعلني، إنْ لم أشعر بالتعاطف معها، أرغب في خوض الرحلة إلى جانبها، على الأقلّ. لديّ فضول كافٍ للذهاب في تلك الرحلة، لأنّها تتعلّق بشخصية أشعر أنّها تُشبهني كثيراً، رغم اختلافها الجذري عنّي. أعتقد أنّ هذه طريقة أفضل لسرد قصص إنسانية، مقارنةً مع أفلام تكتفي بإشهار المواقف.

 

(*) ما رأيك بالمكانة التي تحتلها المرأة في السينما اليوم؟

بخصوص السينما اليوم، ليس بدرجة أولى الأفلام التي تُنتج في أوروبا، لكنْ في هوليوود بالتأكيد، أرى ممثلات رائعات عديدات، من الأكثر موهبة في جيلهنّ، يعشن للأسف فجوة مدّتها 30 عاماً. كما لو أنّ صناعة السينما تقول لهنّ: "انتهى أمركنّ مع سنّ الخمسين، ولا يمكنكنّ العودة إلى العمل إلاّ عندما تبلغن الثمانين". هذا من أغرب الأشياء التي يمكن ملاحظتها، لأنّه حتى عندما يتعلّق الأمر بمخرجات يتمثّلن شخصيات في هذه الفترة من العمر، فإنهنّ يملنَ إلى إنجاز أفلام عن الرجال. لماذا لا يخضن المغامرة مع كل هؤلاء الممثلات الرائعات؟ كما أنّ ممثلين ذكوراً يستمرّون في العمل، لماذا لا يظلّ بإمكان الممثلات تأدية أدوار أولى وهنّ في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من أعمارهن؟ هذا يثير حيرتي في كل مرة، لأنّ هناك كثيرات منهنّ لا يفعلن شيئاً غير الجلوس، والانتظار (ينقر على الطاولة في وضعية ترقّب).

 

(*) سبق لمارتن سكورسيزي أنْ صرّح بالتالي: "السينما شكلٌ من أشكال الفنّ يضعك في مواجهة اللامتوقّع. في أفلام الأبطال الخارقين، لا تتم المجازفة بأي شيء"، ودعمه بونغ جون ـ هو في موقفه هذا. ما رأيك في وجهة النظر هذه؟

هذه طريقة معقولة لقول الأشياء، يمكنني التعبير عنها بطريقة أخرى. ما لا أفهمه حقيقةً أنْ نرغب في رؤية نوع واحد فقط من الأفلام. عندما كنت طفلاً، استمتعت بمشاهدة أفلام الأبطال الخارقين، أو إنديانا جونز، وأفلام سكورسيزي كذلك. إذاً، هذان عالمان مختلفان. لكنّي لا أعتقد أنّ أحدهما يستثني الآخر. كممثل، عليك أنْ تسعى إلى فهم كلّ الأنواع، وأنْ تكتشف الأشياء بمنظورها: "حسنًا، أنا في فيلم جيمس بوند. ماذا يعني ذلك؟". أثناء إعدادنا مشهد تعذيب في "كازينو رويال"، مع دانيال كريغ، خطرت على البال أفكار كثيرة، لأنّ كلينا أتى مباشرة من الأفلام المُصوّرة بروح الـ"روك أند رول". ترك لنا المخرج (مارتن كامبل ـ المحرّر) الحرية لـ4 دقائق، قبل أنْ يقول: "عودا إلى صوابكما يا شباب. هذا فيلم من سلسلة جيمس بوند". كان محقّاً في ذلك. عليك فهم العالم الذي تشتغل فيه، وتحاول أنْ تتحرّى الصدق انطلاقاً مما لديك في هذا العالم. الشيء نفسه إذا أدّيت دور ساحر في "دكتور سترانج" (سكوت ديرّيكسن، 2016 ـ المحرر)، عليك توخّي الصدق في ذلك. ينبغي فهم طبيعة الفيلم عندما يتعلق الأمر بدراما Kitchen Sink على حدّ سواء، لأنّه عالم مختلف تماماً.

 

(*) يقال إنّ المثير للاهتمام في السينما وضع إنسان عادي في موقف استثنائي، أو إنسان استثنائي في موقف عادي. أشعر أنّك أقرب إلى الحالة الأولى.

هناك بالتأكيد أفلام كثيرة كنت فيها بهذا الموقف. أغلب أفلام توماس فينتربيرغ تتحقق فيها هذه الحالة، كما في "المطاردة" (The Hunt، المنجز عام 2012 ـ المحرر)، حيث يوضع رجل عادي في موقف غير معتاد. أحب ذلك. لكنّي أدّيت شخصيات عدّة غير عادية، تصنع الدراما الخاصة بها، خاصة في الكوميديا السوداء، فتصدر عن المشاهدين ردات فعل مثل: "ماذا يحدث؟ لماذا يتصرّف بهذه الطريقة؟". هذا مثير للاهتمام للغاية، عندما يكون حقيقياً. صحيح أننا، إذا كنّا بصدد شخصيات غير عادية في مواقف استثنائية، نميل إلى عدم الاهتمام بها. الشيء نفسه مع الأشخاص العاديين في مواقف عادية، يجعلوننا نتساءل: "لماذا أشاهد هذا؟". الدراما شيء يُمكن أنْ يتأتّى من داخل الشخصية، كما من خارجها.

المساهمون