- غاروني يركز في الفيلم على الشباب الأفريقي الساعي لحياة أفضل، معكسًا الظلم وراء الهجرة ومحاولًا إعطاء وجه وصوت للأرقام والإحصائيات، من خلال التعاون مع مهاجرين حقيقيين.
- العمل يعمق النظر في الأحلام والطموحات الإنسانية والتحديات العالمية، مقدمًا قصة ملحمية تجمع بين الواقعية والخيال لإثارة الوعي والتعاطف تجاه قضية الهجرة، مؤكدًا على دور الفن في التعبير عن القضايا الإنسانية.
بعد تصفيق حارّ في المهرجانات في العالم، ترشّح "أنا القبطان" (2023)، للإيطالي ماتيو غاروني، لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي، في النسخة 96 (10 مارس/آذار 2024). فيلمٌ يعود به غاروني، بعد أربع سنوات على "بينوكيو" (2019)، إلى بُعد أكثر واقعية لسينماه، مع الأخذ بالاعتبار تناوله موضوع الهجرة غير المنظّمة، المُلحّ ودائم الحضور في النقاشات الحالية، على جانبي المتوسط.
مستوحى من قصص حقيقية عدّة لمهاجرين شباب، جاؤوا إلى أوروبا من جنوب الصحراء، يعرض "أنا القبطان" ـ الفائز بجائزة "الأسد الفضّي لأفضل إخراج"، في الدورة 80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" ـ قصة سيدو (سيدو سار، الفائز بجائزة "مارتشيلو ماستروياني لأفضل أمل" في الدورة نفسها) وموسى (مصطفى فال)، ابنَي عمومة مُراهِقَين من داكار، يُقرّران، من دون علم عائلاتيهما، الشروع في رحلة محفوفة بالمخاطر، للوصول إلى شواطئ أوروبا. بالتالي، يخوضان رحلة مخيفة، زاخرة بمخاطر مميتة وعنف وحرمان، لكنّها مليئة أيضاً بحلقات مهمّة من التضامن والأمل.
بعبارة أخرى، يستوي "أنا القبطان"، في الأخير، بكلّ ما فيه: قصة مغامرة عن الشباب وإرادتهم لتحقيق مستقبل أفضل، ورحلة أمل تستذكر كلّ مَن لم يُكتَب له النجاح في إتمام الوصول إلى الجنة الأوروبية الموعودة.
إلى جانب غاروني، شارك في كتابة الفيلم (إنتاج مشترك بين إيطاليا وبلجيكا) ماسيمو تشيكيريني وماسيمو غاوديوسو وأندريا تايّافيري. كُتب السيناريو باللغة الإيطالية، وتُرجم إلى الفرنسية، ولم يقرأه الممثّلان الرئيسيان قطّ، إذ كان المترجم يروي لهما، يوماً تلو آخر، المَشاهد التي سيمثّلانها. لم يغادر الشابّان السنغال إطلاقاً، ولم يعلما بنهاية الفيلم أثناء تصويره. هكذا سار الحال حتى اكتماله.
"العربي الجديد" حاورت ماتيو غاروني عن فيلمه، وارتباطه برحلته السينمائية، والآثار المترتبة على الموضوع، خاصة في اللحظة السياسية الأوروبية الدقيقة الحالية.
(*) لماذا اخترت دولة السنغال تحديداً نقطةَ انطلاق لقصّة "أنا القبطان"؟
هناك أنواع عدّة من الهجرة، تفرضها أسباب مختلفة، كالحرب والمجاعة وتغيّر المناخ. لكنّي أردت هنا التركيز على نوع مختلف، يتعلّق أساساً بالعولمة، وبحقيقة أنّ 70 بالمائة من السكّان الأفارقة شباب. هؤلاء الشباب لديهم نافذة مفتوحة دائماً على أوروبا. يعيش البطلان في فقرٍ، لكنْ لديهما رغبة مشروعة في التمكّن من الوصول إلى مستقبل أفضل. وكذلك رغبة في السفر، ورؤية العالم. ما يواجهانه ليس إلاّ ظلماً كامناً، وهذا جانب من الهجرة لا يُذكر كثيراً، لكنّه موجود بالفعل.
وُلد المشروع من الرغبة في إعطاء شكل مرئي للجزء غير المعروف من الرحلة. منذ سنوات، اعتدنا رؤية صُوَر القوارب التي تصل (عندما تتمكّن من الوصول)، وعمليات الإنقاذ، والاطّلاع على الإحصاء، والأحياء، والأموات، و100، و200، و500، والنقاط الساخنة المنهارة، إلخ. على مرّ السنين، يعتاد المرءُ التفكير في أرقامٍ. المُحرّك الذي دفعني شخصياً إلى إنجاز هذا الفيلم، محاولة توضيح الأمر، أو على الأقلّ القول إنّ وراء هذه الأرقام أشخاصٌ، لديهم رغبات. الرغبات نفسها التي كانت لدينا عندما كنا صغاراً، نسافر مع عائلات نقلق عليها، وأحلام نطاردها، مع فرق أنّهم ضمن نظامٍ يمنعهم من الحركة.
تحدّثتُ عن نوع مختلف من الهجرة عما نسمع عنه عادة، حين يضطرّ المهاجر إلى المغادرة فقط بسبب الحرب أو تغيّر المناخ، وجزء كبير منهم هم ببساطة من الشباب الذين، ككثيرين من بلدنا أيضاً، لديهم إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ويرون عالمنا، ويريدون فرصاً أفضل لكسب المال، حتى يتمكّنوا من مساعدة أسرهم، أو ببساطة يريدون التعرّف على أماكن جديدة. هذا محظور عليهم. فبينما نركب الطائرة، ونذهب لرؤية أميركا أو إنكلترا، أو البلدان التي أردنا معرفتها، يتعيّن عليهم أنْ يضعوا حياتهم على المحك للقيام بذلك. هذا ما دفعني إلى صنع الفيلم.
(*) أين ومتى واجهت القصة الحقيقية "وراء" قصتك، قصة فوفانا أمارا، القبطان الذي لم يقد مركباً قطّ؟
يرتبط الفيلم بقصص عدّة جمعتها في مركز استقبال في كاتانيا وأماكن أخرى، من أولئك الذين قاموا بهذه الرحلة فعلياً: مثل مامادو (مامادو كواسي، مستشار السيناريو الذي كانت قصته الشخصية واحدة من تلك التي ألهمت الفيلم ـ المحرّر)، الذي عبر الصحراء من ساحل العاج إلى ليبيا، وبعد ثلاث سنوات في السجن، يعيش الآن في كازيرتا، حيث يعمل وسيطاً ثقافياً. القصّة الأخرى قصة فوفانا تحديداً، "القبطان" الحقيقي الذي وجد نفسه، وهو في الخامسة عشرة من عمره، على رأس قارب يحمل 250 مهاجراً، من دون سابق خبرة إطلاقاً. عندما وصل إلى الشاطئ، أخبرني أنّه صرخ: "أنا قبطان، أنا قبطان"، رغم علمه أنّه، لدى وصوله إيطاليا، سيواجه خطر السجن، وهذا حدث فعلياً.
اليوم، يعيش "القبطان" الحقيقي في بلجيكا مع أطفاله وزوجته، التي التقاها في مركز الاستقبال في كاتانيا. لكنّه لا يزال لا يملك تصريح إقامة، لذا لم يتمكّن من المجيء إلى "مهرجان فينيسيا السينمائي" مع طاقم الفيلم، رغم تعاونه فيه، وإلهامه له.
(*) تعاونت في كتابة السيناريو مع ماسيمو تشيكيريني. كيف كانت مساهمته بالضبط، خاصة أنّ عملك يبدو مختلفاً كثيراً عن عمله؟
نعم. ربما. لكنْ، في الواقع، ماسيمو أقرب شخص إلى الشخصيات التي رويتها، في "بينوكيو" و"أنا القبطان". إنّه الوحيد بيننا الذي يأتي "من الشعب"، وأبوه رسّام. لذلك، هو أيضاً أقربنا إلى الحكايات الشعبية، وأنا أعتبر الفيلم مغامرة شعبية. إضافة إلى كونه موهبة كممثل وكاتب سيناريو، هو قريب جداً من هذا العالم، فهو يحمله في داخله. لا أحد يعرف كيفية التعاطف أفضل منه. عندما نكتب، يُظهِر معرفة كبيرة ببعض الديناميكيات الدرامية، وبساطة تشبه تلك التي لدى الأطفال. يفهم شعور المَشهد المُراد تنفيذه، ويفهم الشخصيات التي نروي قصصها. يفعل هذه الأشياء بسلاسة، أكثر بكثير مني أو من كتّاب السيناريو الآخرين، الذين يأتون من خلفية الطبقة المتوسطة على أي حال.
(*) أخبرنا شيئاً عن نشأة الفيلم، خاصة كيف وثّقت مشاهد الصحراء وتلك الموجودة في ليبيا.
هناك أعمال توثيق كثيرة استمرّت بضع سنوات، لمحاولة معرفة الحقيقة، والعثور عليها. استمعتُ إلى قصص أولئك الذين عاشوها مباشرة، قبل التصوير وخلاله. كان لمامادو دور فعّال في سرد القصة بأكملها، كذلك في تصوير جزء السفر والصحراء وليبيا. الفيلم عملٌ جماعي: حكوا لي قصصهم، ووضعت نظرتي في خدمة تلك القصص.
(*) المهاجرون في الفيلم شباب يعيشون حياة طبيعية، إلى حدّ ما. يعتمد النقاش السياسي الأوروبي الحالي، إلى حدّ كبير، على طبيعة الهجرة. هل اعتبرت أنّك، بتبنّيك هذا الاختيار، تتّخذ موقفاً معيناً؟
عندما أروي قصّة، أحاول دائماً مفاجأة نفسي والمُشاهد. هذه الهجرة موجودة، ونحن نعلم ذلك. هناك 52 دولة في أفريقيا. يجب ألا ننسى أنّ هناك أيضاً هجرة داخلية. أعتقد أنّه مهمّ أيضاً ذكر انعكاسات العولمة، التي تؤدّي إلى رغبة كثيرين في الخروج من حالة "الفقر اللائق"، للحصول على مستقبل أفضل. كما أسلفت، 70 بالمائة من الأفارقة شباب، بينهم من لا يخشى المخاطرة بحياته من أجل تحقيق حلمه.
(*) أين وجدت الشخصيتين الرئيسيتين؟ هل كانا مُهاجِرَين أيضاً؟
التقيتهما في السنغال بعد عملية طويلة من الاختبارات، التي أجريت أيضاً في إيطاليا وأوروبا. إلا أنّي أدركتُ فوراً أنّه مع أبناء البلد، سيكون المظهر مختلفاً، وأكثر أصالة، لشخصٍ لم ير أوروبا من قبل. تلقّى مصطفى دورة تدريبية في المسرح، بينما كانت أخت سيدو وأمّه تمثّلان على مستوى الهواة.
من ناحية أخرى، لم يكن لديهما أي خبرة في التمثيل أمام الكاميرا. أعتقد أنّهما لم يكونا يعتزمان مغادرة السنغال إلى أوروبا إطلاقاً. على عكس الشخصيتين اللتين يؤديانها، يدركان مدى خطورة رحلة كهذه.
(*) ضمن ديناميات الفيلم، هناك انعكاس لقصة "بينوكيو"، التي قدّمتها سابقاً. هناك قليل من ديالكتيك لوتشينولو ـ بينوكيو في الشخصيتين الرئيستين. وأيضاً، هناك شيء من حكاية خيالية في الأجزاء الحلمية.
في الواقع، فكّرت، قبل سنوات من إنتاج "بينوكيو"، في عمل نسخة مهاجرة من رواية كولودي، ثم غيّرت رأيي، وتركت هذه القصّة جانباً لفترة، بعد شعوري بالحرج من الحديث عن بلدٍ لا أعرفه. لكنّ شيئاً من تلك القصّة ظلّ هناك. في نهاية المطاف، عندما كتب كولودي قصّته، كان يحاول تحذير الأطفال من خطر العالم حولهم وعنفه.
رحلة سيدو رحلة صبي يلاحق أرض الألعاب (Toyland)، ويخون عائلته، كما خان بينوكيو جيبّيتّو، ثم يصطدم بالعالم حوله، بعنفه ورعبه. هناك أيضاً لحظات أخذتني إلى "عمورة" (Gomorra)، فهناك التقاء بين شقّين في الفيلم. الجانب الحلمي مهمّ، لأنّه سمح بإخبار الشخصيات من الداخل، للوصول إلى أرواحهم وجوهرهم. يتبع الفيلم مسارين متوازيين، أحدهما فيلم طريق، مع رحلة عبر أفريقيا، والآخر داخلي ـ باطني، عبر رحلة روحية.
(*) يقول البعض إنّ الأفارقة فقط هم الذين يجب أنْ يتحدّثوا عن أفريقيا. ما رأيك في ذلك؟
وُلد الفيلم من عمل جماعي، أي من اندماج بين نظراتي وشهاداتهم، وجُمع من خلال قصصهم. ارتبط الفن دائماً بالتعاون والاندماج. ينبغي على الفنان ألاّ يتحدّث فقط عما يتعلّق بحياته، وإلا يُصبح فنّه فقيراً ومحدوداً. يجب أن يُفهَم فقط ما إذا كان العمل صادقاً أم لا. لهذا، يجب التحقّق من كيفية تلقيه، من دون الحكم على مَن صنعه.
بالمناسبة، هذا جانب أساسي من نقاشٍ ضروري خضته مع نفسي. بعد الاستماع إلى تلك القصص الأولى، "بقيتْ هناك" في مكان ما من عقلي. بمعنى أنّي لم أقرّر فوراً صنع الفيلم، لأسباب تتعلّق أيضاً بثقافتي، البعيدة جداً عن ثقافتهم. كنت خائفاً من عدم القدرة على إخبار ذلك العالم. رأيتُ خطر كوني بورجوازياً أوروبياً آخر، يستغلّ رحلة المهاجر الفقير من وضعه الغربي المريح. دفعتني سلسلة من المخاوف إلى المماطلة لسنوات. وفي هذه الفترة، صوّرت "بينوكيو". ثم، بعد ثلاث ـ أربع سنوات، لا أعرف كيف ومتى قرّرت، وجدتُ نفسي أعمل على هذا الفيلم. كدتُ أشعر أنّ الفيلمَ انتظر، ثم قال لي: "حان الوقت. عليك أن تُنجزني". كما لو أنّه اختارني. لتحقيق ذلك، تشبّثت بقصصهم.
لكنْ، قبل كلّ شيء، هذا فيلمٌ صنعته معهم: كانت الطريقة الوحيدة الممكنة، برأيي، للتمكّن من الدخول إلى ثقافتهم، ومحاولة ذلك، ولجعل العمل أصيلاً وحقيقياً. هذا فيلم صنعناه معاً فعلاً. جهد جماعي مشترك في كلّ المراحل، من السيناريو إلى التصوير، ثم أيضاً في المونتاج.
(*) هناك تصوُّر خاص لأوروبا. في مرحلة ما، تحذّر إحدى الشخصيات الشخصيتين الرئيسيتين من المخاطر، مُدّعية أنّ الناس في أوروبا "يموتون في الشوارع".
هيكل الفيلم هيكل رحلة بطل كلاسيكية. لهذا، أوجدتُ شخصيات لتحذير البطلين من الخطر الذي يُقدِمان عليه. شعرتُ أنّ هذا عنصرٌ كلاسيكي من وجهة نظر درامية، بما أنّنا كتبنا الفيلم بحسب تقاليد قصص المغامرة.
(*) أي كلمة أخيرة؟
فيلمي يسلّط الضوء على الظلم. لسوء حظّي أو لحسنه، أمتهنُ صناعة الأفلام، وبالتالي أستطيع التحدّث عن القصص التي عشتها من خلال الشباب الذين عملوا معي. لم أتعمّق في خطاب الاتحاد الأوروبي. ما أرويه عبارة عن رحلة، تبدأ من نموذج أصلي. كإيطاليين، نحن شعب مهاجرين. أعتقد أنّه فيلم يتحرك على مستوى أكثر عالمية. يتعامل مع مشكلة عالمية معقّدة للغاية، لا أعتقد أنها ستُحلّ بسهولة في السنوات المقبلة.