اجتمع لعاصي الرحباني (1923 - 1986) من أشتات الفنون ما لم يجتمع لفنان عربي؛ فهو الشاعر، والملحن، والموزع الموسيقي، والمؤلف المسرحي. وقد هيأت له الأقدار أن يكون المالك الحصري، لثلاثة عقود، لصوت نهاد وديع حداد؛ فيروز، صاحبة أحد أهم الأصوات النسائية العربية في القرن العشرين. وبصوتها، وبمشاركة أخيه منصور، انطلق أهم مشروع موسيقي عربي لا يخضع للهيمنة الفنية المصرية التي يتزعمها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم.
وبالرغم من أن هذا المشروع يُنسب شكلياً ورسمياً إلى الأخوين رحباني، أي لعاصي ومنصور معاً، إلا أن هيمنة عاصي على التفاصيل والإخراج النهائي للعمل، رتبت له مكانة أكبر ودوراً أهم في بناء الصرح الرحباني الفيروزي الضخم.
مثلت فكرة الأخوين حالة استثنائية فريدة، لا نظير لها في العالم العربي، فالكلمات، والألحان، منسوبة إلى الشقيقين، اللذَين أصرّا لعقود على إحاطة تفاصيل دور كل منهما بكتمان صارم، والتشديد اشتراكهما معاً في العمل الواحد، مع ترك خيال الجماهير والصحافة والإعلام ليذهب إلى كل الاحتمالات الممكنة نظرياً: يكتب أحدهما ويلحن الآخر. يتبادلان دور الكتابة والتلحين، يشتركان في الكتابة وينفرد أحدهما باللحن. يشتركان في التلحين بعد أن انفرد أحدهما بالكتابة، أو يشتركان في الكتابة والتلحين معاً، بل من المؤكد أن هذه المدة الطويلة شهدت أعمالاً كانت كلماتها وألحانها لفرد واحد، لكن عاصي أصرّ -ورغم زواجه من فيروز- على نسبة كل الأعمال في شقيها النصي والموسيقي إلى الأخوين معاً.
لم يعرف العرب نصاً يُنسب إلى كاتبَين، ولا لحناً يُنسب إلى موسيقيَّين، ويبدو أن تعبير الأخوين رحباني -على شكليته- كان أولى خطوات التمييز والاختلاف التي حرص عليها عاصي مبكراً، والتزمها عمره كله. وقد نجح ومعه منصور وفيروز في الحفاظ على هذا الشكل المميز، الذي لم يتأثر كثيراً بما كان يرشح من معلومات ترجح دور عاصي، وبعض هذه المعلومات ذكرها منصور بنفسه في لقاءات صحافية أو تلفزيونية. وقد قال في حوار صحافي عام 1991: "أعترف بأن نتاج عاصي الشعري أكثر من نتاجي، وكذلك نتاجه الموسيقي". لكن الأمر مع عاصي يتجاوز هذا الجانب الكمي. كان الرجل يتدخل في أدق التفاصيل وأصغرها. كان يهتم بكل شيء: الإضاءة، والملابس، والديكور والخلفيات. كذلك، طريقة دخول فيروز إلى المسرح، ووقفتها أمام الجمهور، وكيفية رد التحية لمن قطعوا المسافات لأجل سماعها. فيروز نفسها أكدت -في فيديو منشور- أن عاصي كانت له الكلمة الأخيرة عند كل خلاف أو بعد كل نقاش. وتحدثت عن رفضه أن تعود إلى المسرح بعد انتهاء فقرات الحفل كي تحيي جمهورها. وصفته بالقسوة، واعترفت بأنها كانت مستسلمة تماماً لأوامره، وكانت مؤمنة بأفكاره وقراراته. كذلك صرحت في لقاء آخر بأن عاصي "كان المؤلف في أغلب الأحيان، وكان المقرر في كل الأحيان. سلطته لا يتجرأ أحد على أن يعترضها".
يمكن أن نقول إن التمايز كان الركيزة الأساسية التي بنى عليها عاصي الرحباني مشروعه. كان الاختلاف هاجسه الأول، لكنه كان مدركاً أن الاختلاف وحده لا يكفي للقبول، وأن احترام الجماهير يحتم أن تحمل أعماله مع الاختلاف معنى وقيمةً. ورأى أن بإمكانه -عبر صوت فيروز- أن يبني مشروعاً يغاير كل ما هو سائد، وذلك عبر أربع ركائز، هي: الكلمة، واللحن، والتوزيع، والأداء.
قدم عاصي ومنصور نصوصاً جديدة في أفكارها وفي صياغتها، فصيحة كانت أو بالعامية. كلمات وتراكيب تختلف ذات شخصية مستقلة، إذ لم يكتفيا بالاعتماد على اللهجة العامية اللبنانية ليتميزا بها عن العامية المصرية، وإنما ارتكنا إلى أنماط بلاغية طازجة وجديدة تماماً على الشعر الغنائي في ذلك العصر.
وتمثيلاً، يمكن أن نتأمل كلمات أغنية "بكتب اسمك" التي صاغها الرحابنة بالعامية اللبنانية: "بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق.. تكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق.. بكرة بتشتي الدنيا.. ع القصص لمْجَرَّحة.. يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحا". لا ريب أن هذه صور بيانية غير مطروقة للتعبير عن حب يتسم من طرف بالقوة والثبات والتذكر، في مقابل نسيان وإهمال من الطرف الآخر. الأول الحريص يكتب اسم حبيبه على أشجار الحور القديمة القوية الراسخة، فيبقى الاسم مخلداً على جذوعها العتيقة، والثاني المهمل يكتب اسم حبيبه على رمال الطريق، التي سرعان ما يجرفها المطر فينمحي الاسم الذي كُتب عليها. وفي داخل هذه الصورة الكلية، يأتي تعبير المطر الذي ينزل على القصص، ثم يأتي وصف هذه القصص بأنها ذات جراح: "بكرة بتشتي الدنيا ع القصص لمجرّحة"... وكل ذلك يمنح الصورة الشعرية ثراءً وجدة تجذب السامع وتنال تقديره. وصف منصور رحباني نصوص أغنيات عاصي بأنها "تلتقط الناس بشكل مرعب".
في تمايزه التلحيني، اختار عاصي طريقاً خاصاً، يبتعد به عن النفوذ الفني المصري، وإن التقى جزئياً ببعض ألحان محمد عبد الوهاب. تميزت جملة عاصي الموسيقية بالبساطة والوضوح. ولم يوقف جمالها على شرط التعقيد والصعوبات. عكست ألحان عاصي مخزوناً تلاقت فيه الموسيقى الشرقية، بالكلاسيكية الغربية، الروح البيزنطية بالفولكلور اللبناني، التراتيل الكنسية بالتواشيح. أثارت ألحانه جدالاً متواصلاً، ونقاشات لا تنتهي، واتهامات بطغيان المكون الغربي في موسيقاه. لكنه كان مؤمناً إيماناً كاملاً بمشروعه، ومدركاً مدى تعارضه مع الأنماط الموسيقية والغنائية السائدة والمستقرة.
وقد تحدثت فيروز عما يمكن أن نعتبره استنكاراً جماهيرياً لأغانيها من ألحان الأخوين، ثم تغير هذا الموقف الجماهيري مع إصرار عاصي على الخط الذي يسير فيها، إلى أن فرض نفسه، واتسعت دوائر قبول ألحانه.
لم يعرف النصف الثاني من القرن العشرين موسيقياً اهتم بالتوزيع الموسيقي قدر اهتمام عاصي، لكنه -كما في ألحانه- بدا منطقياً للغاية في توزيعه، واستساغت الجماهير أفكاره التي بدا منها أنه لا يحب ازدحام الآلات المختلفة، وكان دائم الحديث عن ميله لبساطة الجملة تلحينياً وتوزيعياً.
يوضح زياد الرحباني معنى "البساطة" في ألحان والده، فيقول: "أعتقد أنه كان يعني ببساطة الجملة أن تكون من دون أي افتعال، ليكون الجمال طبيعياً. ولكن إكمال الفكرة البسيطة يتم بالجهد العملي، أي إنه كان ضد التركيب المصطنع في التأليف وخصوصاً في كتابة النسيج الهارموني، فالمهم أن تستخدم كل هذه التقنيات في اتجاه أن تظلّ داخل العفوية والبساطة".
وبعد الكلمات واللحن والتوزيع، يأتي التمايز في الغناء، إذ فرض عاصي على فيروز تفاصيل أدائية بالغة الصرامة، ويبدو عاصي في هذا الجانب، وكأنه وضع نصب عينيه طريقة غناء أم كلثوم، كي تخالفها فيروز في كل شيء. فإذا كانت أم كلثوم هي ملكة القفلة المطربة الحراقة، فإن عاصي سيضع ألحاناً لا تتضمن هذا النوع من القفلات أصلاً، لتكثر في غناء فيروز القفلات المفاجئة أو المعلقة، التي يصفق الجمهور بعدها لأن الأغنية انتهت، أو انتهى قسم رئيس منها، وليس طرباً لقفلة ملتهبة.
وإذا كانت أم كلثوم تكثر من الارتجال والتصرفات اللحنية، فإن على فيروز أن تتحول بصوتها العظيم الفريد إلى آلة تؤدي اللحن كما هو مدون في النوتة الموسيقية، بلا أي تصرفات وإن صغرت، ولا ارتجالات وإن ندرت. تتجاوب أم كلثوم مع الموسيقى بجسدها كله، وتحرك كفيها وذراعيها مع النغم، إذن فلتقف فيروز على المسرح في حالة ثبات شبه كامل، حركة يديها ورأسها مقيدة بحدود دنيا، وقد تمر عليها دقائق وكأنها تمثال من الشمع. بل إن عاصي كان له الدور الأكبر في رسم صورة فيروز على المسرح باختيار زي رئيسي شبه ثابت، متمثلاً في جلباب مطرز، تتغير فقط ألوانه وبعض تفاصيله.
ويبقى المسرح الغنائي، منجز عاصي الذي لا يختلف عليه أحد. فصحائف التاريخ دونت أن مؤلفاً وموسيقياً لبنانياً استثنائياً امتلك الجرأة منذ أوائل الستينيات على إحياء فن كان قد انتهى ومات في مهده من سنوات طوال. وأنه ثابر وكافح واستمر حتى قدم أكثر من 20 مسرحية، حققت في مجملها نجاحاً جماهيرياً غير مسبوق، حتى تلك المسرحيات التي خلت من فيروز وصوتها.
كان عاصي الرحباني مفكراً موسيقياً صاحب رؤية وموقف، وأرسى قواعد مشروع ضخم، وفق أسس وضعها بنفسه، ولإصراره ونجاحه واختلافه نال احترام القطاع الأكبر من الجماهير، بغض النظر عن مدى قبولهم لمشروعه. ومن خلال الكلمة واللحن والتوزيع والأداء، ثم من خلال المسرح الغنائي ارتفع بناؤه، وبصوت فيروز ناطح السحاب وما فوق السحاب، فبكلماته وألحانه مع منصور صارت فيروز "سفيرة لبنان إلى النجوم"، بل أصبحت جزءاً من وجدان أمة لا تكاد تتوحد إلا خلف الزعامات الفنية. وقد كان عاصي ولا ريب واحداً من أكبر هذه الزعامات.