مؤسسة ليو سميت... بعث لموسيقى كانت صامتة

08 أكتوبر 2023
المؤلف الموسيقي ليو سميت (Getty)
+ الخط -

من بين أكثر المواضيع شيوعاً، في الحقل الثقافي عموماً، والموسيقي خصوصاً، منذ العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، هو التنقيب عمّن همّشهم رواة التاريخ.

في ردّ فعل إزاء مقولة إن "التاريخ يسطره الأقوياء"، تسعى كل من المؤسسات الأكاديمية والأوساط الثقافية ووسائل الإعلام في العالم الغربي، مدفوعة بنفوذ بات يتمتع به اليسار التقدمي الجديد، داخل دوائر صنع وتوجيه القرار فيها، إلى إحقاق أثر رجعي من عدالة تاريخية، تصب في صالح أولئك اللاتي والذين لم تر مُخرجاتهم الفنية والفكرية النور، إما بسبب إقصاء أو اضطهاد كانوا قد تعرضوا له، أكان لأسباب سياسية أو اجتماعية.

في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2020، تحدث الناقد الموسيقي، يوشوا بارون، في مقال له نشرته صحيفة "ذا نيويورك تايمز" عن سعي الفرق السمفونية والفيلهارمونية الأميركية إلى البحث عن مؤلفين أميركيين سود، أغفل تاريخ البلاد الأبيض اللون ذكرهم، وصم أذنيه عن أعمالهم. وذلك نيّة منها التعريف بهم وتقديم موسيقاهم إلى العموم، تأثراً بموجة الاحتجاجات العارمة التي شهدتها البلاد تحت شعار Black Lives Matter، تنديداً بعنف الشرطة تجاه المواطنين من أصل أفريقي، أو هسباني، أو هندي، أو شرق أوسطي.

اليوم، تشهد شوارع برلين، عاصمة ألمانيا، على لوائح إعلاناتها، مُلصقاً دعائياً للأوركسترا الألمانية، يحمل شعار "في كل أمسية موسيقية، ثمة مؤلفة موسيقية"، في إشارة إلى أن إدارة الفرقة تُلزِم نفسها، أمام جمهورها، بتضمين كل برنامج حفلة تُحييها، مقطوعة واحدة على الأقل، ألفتها امرأة، سواءً من الزمن الماضي أو المعاصر. رغبة في إحقاق عدالة إزاء تاريخ موسيقي غربي ذكوري المركز، لم يُخلِّد سوى أسماء المؤلفين.

أخيراً، وفي سياق مُشابه، توّجت مؤسسة "ليو سميت" الهولندية ما اعتبرته جهداً مستمراً منذ 1996، رمى إلى تسليط الضوء على كوكبة من المؤلفين الموسيقيين الهولنديين، كان قد عُتِّم على إنتاجاتهم خلال الفترة التي رزحت البلاد المنخفضة خلالها تحت احتلال ألمانيا النازية لمدة خمس سنوات، انتهت بانتصار جيوش الحلفاء، فتحريرها هي وبلدان أوروبية أخرى عام 1945.

فقد نُظِّمت فعالية موسيقية استضافتها مدينة ميدلبورغ (Middelburg)، عاصمة مقاطعة زيلاند في هولندا. خلالها، عُرِضت على الجمهور موسيقى حيّة لعشرين مؤلفاً موسيقياً هولندياً من المضطهدين إبان النازية، داخل أحد مباني المدينة التاريخية، وذلك إيذاناً ببدء رفعها على منصّات الإنترنت المتعددة. من بين المُنقَّب عنهم كان من تكنّت المنظمة باسمه، ليو سميت (Leo Smit)، والمؤلفة عازفة البيانو روزي فيرتهايم (Rosy Wertheim).

من مؤلفات الأخيرة، عُرِضت سوناتينا لآلة التشيلو والكمان. يتسنّى للأذن الصاغية أن تلمس بيسر، ومن خلال السلاسل الهارمونية الكروماتية، لصوت البيانو، والسلالم الخُماسية الإكزوتية لصوت التشيلو، مدى تأثّر المؤلفة بالمدرسة الفرنسية الرومانسية المتأخرة، التي مهدت بدورها الطريق لما سيُعرف مطلع القرن الماضي بالانطباعية الفرنسية، وذلك في مسعى نقدي إلى توحيد المسارين الأسلوبيين لكلّ من الفنون التشكيلية والموسيقى. يبدو مدى التأثر بديهياً، حين يُقرن كرونولوجياً (تأريخياً) بانتقال فيرتهايم إلى العيش في باريس سنة 1935 وبالتالي، عقدها صلات حميمة مع نُخَب الفن والفكر للمدينة، عبر فتح دارها صالوناً للثقافة.

على المنوال الاستلهامي ذاته من الموسيقى الفرنسية، نسج ليو سميت مقطوعته التي عُرِضت له خلال الأمسية، بعنوان تريو، أي ثلاثي، لكل من آلة الهارب الفلوت والفيولا. لا غرابة في ذلك النسج أيضاً. ذلك أن سميت بدوره، كفيرتهايم، كان قد استقر في باريس منذ سنة 1936. آنذاك، بدا واضحاً لمُثقّفي القارة الأوروبية تموضع الحراك الإبداعي، على صعيدي الأدب والفنون في فرنسا. تموضعٌ، استمر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.

عدا عن أن لغة سميت الموسيقية تتناهى أكثر تجريبية، وانفتاحاً على المغامرة الصوتية، من مواطنته فيرتهايم، التي اكتفت بمحاكاة مُحافظة للشاعرية الفرنسية. في حين يسبر سميت عوالم نغمية وتوزيعية غير تقليدية، مُستوردة من الجاز والموسيقى الطليعية، التي بدأت تظهر في تلك الحقبة، تستهدف الرتابة السُّلّمية، من خلال نثرها بذور التنافر على الألحان والإيقاعات.

موسيقى
التحديثات الحية

خلافاً لشعوب أوروبا الوسطى، كإيطاليا وألمانيا وفرنسا، لم يذكر التاريخ العديد من المؤلفين الموسيقيين الهولنديين، ولا سيما الكبار منهم، في حين أتى من البلاد المنخفضة كبار في الفنون التشكيلية، مثل رواد المدرسة الفلمنكية في الرسم، كرامبرانت، وعقول نيرة في الفكر والفلسفة كسبينوتزا، إبان القرن السادس عشر، ناهيك عن الرسام فان غوخ آخر القرن التاسع عشر. 

يتناقض ذلك مع مدى اهتمام الهولنديين بالموسيقى الكلاسيكية، الذي يتجلى من خلال احتضانهم واحدة من أفضل الفرق الموسيقية في العالم، أوركسترا الكونسرت خيباو أمستردام، إضافة إلى غيرها من العديد من الفرق والمؤسسات التعليمية والأكاديمية الموسيقية المرموقة.

الأمر الذي يُفسّر الدأب على التنقيب عن أسماء موسيقية، محاها التاريخ لظروف سياسية، اجتماعية، وحتى حقبوية، أو محض قدرية؛ إذ لم يتسن للألمان مثلاً، الاحتفاء بمؤلفهم الأعظم يوهان سباستيان باخ، إلا حين أحيا فيلكس مندلسون قداسه الشهير بحسب إنجيل متى، وذلك بعد قرابة قرن على وفاته.

ثمة سبب آخر، قد لا يتصدر المهمة عنواناً لها، كالتنقيب عن المُهمّشين تاريخياً، ألا وهو الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الموسيقى بصورة عامة، والكلاسيكية خصوصاً، إنتاجاً واستماعاً؛ إذ إن ضعف الإقبال على ارتياد أمسيات موسيقية ما انفكت تعرض الأعمال نفسها للمؤلفين أنفسهم مراراً وتكراراً على مدى قرنين من الزمان، بات يُحكّم على المؤسسات المانحة والجهات المُنظّمة البحث عن عناوين جديدة، علها تجذب آذان المستمعين.

من هنا، تتلاقى مصلحتان، تصبّ كلاهما في صالح من همّشهم التاريخ. مصلحة المشتغلين بالموسيقى، تمويلاً وتنظيماً وتنفيذاً، ومصلحة المشتغلين بالسياسة الثقافية ممن يرفعون إحقاق العدالة التاريخية شعاراً. ألا وأن أصبحت اليوم بعض تلك الأعمال التي ظلّت منسية تُعزف وتُسمع في الصالات حول العالم والمنصَات حول الإنترنت، فلتاريخ الحاضر والمستقبل أن يحكم على قيمتها الفنية وجدارتها في البقاء.

المساهمون